سأحكي ما وقع من أمري في زمن كنت فيه بمخيلة طفل.. لأزف بشارة لكل مبتلى أنّ ما بعد الضيق إلا الفرج..
سأكتب لحظات على شاطىء الدموع، حتى لحظة تذكرها يتوجع منها قلبي !
في أواخر عام 2017 في شهر أكتوبر بالتحديد مَرِض أغلى أخوتي وأصغرهم سناً وأقربهم إلى قلبي وهو في عمر لا يتجاوز الثالثة عشر ، فجأةً وبدون سابق إنذار بدأت صحته بالتدهور ولم نكن ندري ما سبب مرضه !!
فالشيء الوحيد الذي نتيقن منه هو معاناته إذ كانت غيابه عن الوعي !!
ولخوفي عليه كان طول الوقت بين أحضاني وكأنه قطعة مني ، وتخيل ولو للحظة أن تحمل بين يديك أغلى ماتملك وكُلّك عاجز عن التصرف والتعبير ؛ وحتى الأطباء عجزوا عن فهم معضِلته، وكل طبيب يقف شاخصَ البصر مكتوفَ اليدين، وكأنه لأول مرة يرى حالة مثل حالته !! يومها أُصيب جميع أفراد الأسرة بالتعب الشديد والإرهاق وكلنا نتحضر لأمر غيب!
زاد الأمر عن حده لكثرة الأدوية التي يستعملها بغير جدوى ، حتى صارت تنعكس على صحته بشدة .
طفل في مِثل سنه لا يتحمل فوق ما يُعاني ، يقوم بإجراء فحوصات كثيرة ومرهقة للجسم، وكان من ضمنها فحصين من نفس النوع المعروف في غضون 48 ساعة ، وفحص المعدة بالمنظار .. وإجراء تخطيط للقلب وغيرهم… والعجيب أن كلّ هذه الفحوصات لم تعطي للأطباء ولو مؤشر بسيط عن حالته !!
في ليلة 2017/11/11م أجزم أنني وُلدت فيها، لا زالت ذكراها باقية معي وبأدق تفاصيلها ، لأنها أول ليالي الألم والوجع، كانَ قلبي المسكين يتمزَّغ في أشعة ألحاظها كما يكون المقضيُّ عليه إذا أحاطت به السيوف !
ذهبنا إلى المستشفى وكانت ليلة باردة والشوارع شُبه خالية والساعة تُشير إلى الحادية عشر بما يقارب منتصف الليل، ذهبنا والفتور قد بلغ منّا مَأمنه ، لكثرة ذهابنا للمستشفيات ولعلها محاوله أخيره في نجاته .. وأنا أعيي ما أقول !
وقد كنا نرى العجز وفقدان الأمل في عين كل طبيب نقف أمامه إلّا أن الأمل بالله لاينقطع..
دخلنا إلى حالة الطوارئ في مستشفى خاص بالأطفال !
لأول مرة أدخل هذا المستشفى وأتذكر شوارعه الضيقه ، وشجره المتشابك ، ولو غضضت بصري لمشيت إلى حالة الطوارئ دون الحاجة إلى من يرشدني ، ليس لقوة ذاكرتي ولكن لشدة الموقف على قلبي ، كنتُ أتأمل في ابسط الأشياء وكأن الثانية صارت ساعه والدقيقه يوم.. !!
بعد دخولنا حالة الطوارئ قدّموا اسعافات أولية له وبعد دقائق أبلغونا بأنهم بحاجة إلى أخذ جرعة من دمه لفحصها ، فجاءت طبيبة لا أدري رُتبتها لأخذ جُرعة الدم ، ولكن ما لا أفهمه ولن أحاول تَفهمهُ أن يد الطبيبة كانت ترتجف وقت أخذ الدم من أخي، وكانت يده الصغيره بين أصابعها وأثناء أخذها للدم جرحته وسال الدم من يده ، واضطرت لمحاولات حتى نجحت في أخذ جرعة الدم !! وكانَ شُبه فاقد للوعي فأسندته على كتفي وكنت مُتعب جداً وأشعر بانهيار داخلي من النوع الصامت ، لأني وصلت لآخر درجة من الفزع !
وبعد ساعه من مكوثنا في المستشفى دخل علينا الطبيب ولكن كالعادة مصدوم وكأنه ما رأى قط هذه الحالة من قبل ، كعادة ما سبق من الأطباء، وكان شابك يديه وراء ظهره ، واقف شاخص البصر واتذكر ملامح وجهه فلم اتحمل هذا الصمت ، ولو حاولت ذكرَ ملامحه لفعلت ولكن لا فائدة من ذلك ! وكان مردّ حديثه أنه لا يدري!
نظرت إليه نظرةَ غاضب وبشكل لا إرادي قلت بصوت مبحوح هل تستدعي حالته الذهاب به إلى خارج الوطن ، نظر إلي وكأنه يريد القول أن سؤالي محظور ، ولم يرُد !
ازدادت حالة أخي سوءََ ولم تكن بيدنا حيلة، ومن هنا بدأ كابوس هذه الليلة معي، كان بين أحضاني، وكل دقيقة يغيب عن الوعي..
أسئلة كثيرة دارت في ذهني ولم أجد لها جواباً!
يقولون معرفة الداء نصف الدواء، وهنا الحلقة المفقودة وهي الداء!
تأخر بنا الوقت ولم يبقى في حالة الطوارئ غيرنا، شعرت بالتعب الشديد لحظتها وقُلتُ للوالدة سأخرج لآخذ قسطا من الراحة، فعلاََ خرجت وكانت أول مرة أجلس فيها مع نفسي بصدق !
جلست عند باب الطوارئ وأنا أتأمل في هذا الكون الفسيح والوجع يخنقني، لمحتُ قنينة ماء فأخذتها وهممتُ بالوضوء وكأن العالم لم يَعد يتسع لي لشدة النازلة على قلبي، ولو أردت وصف هذا الشعور لشعرت بالعجز الكامل حتى اللحظة! شعور غريب جدا ، لَمْ أكُنْ أعلَم أكان القَلب يَدُقّ، أمْ يضرِب رَأسه في حائِط صَدري باكياً..
توضأت وصليت ركعتين ورفعتُ كُفي إلى رب العالمين وتمتمت بكلمات خرجت من القلب ومقالها : اللهم إن كانت الحياة خيراً لأخي فأطِل في عُمره وإن كانت الممات خير له فخذه وأنت راضٍ عنا ..
بعدما انهيت الدعاء خف الروع عني نسبياً، بعد ماكان قلبي سينفجر ولا أبالغ!
فوضتُ أمري إلى رب السماوات والأرض ، بعد ما أيقنت كل اليقين أن الجميع بلا استثناء عاجزون !!
وحكمتُ على نفسي بأن أمر الله مقضيٌ لا محالة، وكان أغلب ظني أنه لن يتخطى تلك الليلة وهذا هو سبب خروجي عن الأهل..
رغم الأوجاع والمعاناة كأنني لأول مرة أصلي بقلب خاشع ومستسلم كلياً ، وكأنني ماتعرفت على الله قبل هذه اللحظات، وكان عزائي ليلتها، المعرفة بالله تقتضي الصبر والظن الحسن والتوكل.. رُب ضارةٍ نافعة!
بعد ما انتهيت من الصلاة ذهبتُ إلى السيارة لأنام ولكن كيف أنام وقد وصلت إلى آخر درجات الفزع والروع، لم أستطع النوم فرجعت إلى داخل حالة الطوارئ، وكانت الساعه تشير إلى الرابعه فجراً إذا لم تخني الذاكرة !
في الصباح خرجنا من المستشفى كما دخلناه..
وبعد صراع دام أكثر من شهر ولم يبقى سبباً للعلاج إلا وخُضنا فيه مضماراً ، وبعد ما تأكدنا أنه لم تعد هناك فيه وسيلة للعلاج ، وبعد فترة من المعاناة والفحوصات و الكشوفات وانعدام النوم، قررنا أن نذهب به إلى خارج البلاد، ذهبنا به وهو في آخر رمق، حتى أن البعض نصحنا بأن لا نذهب به!
لأن من رآه ظنه من الموتى، وذلك في نفس الليلة التي سيذهب فيها !
المهم.. ذهبنا به وتم تشخيص حالته، فلم يستغرب أول طبيب دخلَ عليه من حالته وبعد ما أجرى فحص وُجِدَ أن الضرر.. عَصب في الدماغ لا يُرى بالعين المجردة وصغير جدا حتى أنه تم تكرير الفحص لمرتين حتى تبيّنت المعضلة، وبحمد الله وفضله تم تشخيص الحالة، وهذا واللهِ بحد ذاته شفاء !
لأن من عرف الداء فالدواء بقدرة الله سينفع، كل هذه الآلام والسخفات كان سببها عطل بسيط جدا في الدماغ لا يكاد يرى، سبحان الله !
لو كان المقام يسع لسرد كل تفاصيل القصة لكان ذلك، ولكن بودي أن أقول.. بعد هذه النازلة تغيرت نظرتي للحياة كلّها، تغير مفهومي للحياة وحتى المبادئ التي كانت في ذهني !
وأذكر موقف حصل بعد مرور شهر من علاج الأخ ، كنت أراقبه طول الوقت مخافةَ أن يحدث له مكروه حتى أننّي اضطررت إلى الغياب عن الجامعة لعدة أشهر ، وكان بطبيعته كطفل يُحب الخروج إلى الشارع ولكن صحته لا تسمح له بذلك ، وفي مرة من المرات خرج خِلسة دون أن أشعر ، فخرجت فإذا هو في وسط الشارع تبِعته وضربته ضرب خفيف وصرخت في وجهه "لماذا خرجت لوحدك" إلا أنه لم يتحمل وسالت الدموع من عينيه وسقط مقشياً عليه ولكن تداركته قبل نزوله للأرض ، وهو بين يدي مغمي عليه مرّ علي رجل -جار قريب من المنزل- ويعلم بمرضه مسبقاً وقال لي ألا تشفق على حاله فخفضت رأسي والتزمت الصمت ؛ وياليته لم يتكلم !
ومن يومها عهدت على نفسي أن لا أضع يدي عليه ! بعض المواقف رغم بساطتها قاسية جدا ..
سنة 2017 هي بداية معاناة ونوازل، تتالت فيها محن الواحدة تلو الأخرى!
ولكن بفضل الله كانت مفتاح خير على هذا القلب المسكين وكانت بداية لطريق جديد ..
رغم أن المريض هو أخي إلا أنني تحملت ما لم أتوقع أنني قادر على تحمله ، وأجمل ما في هذه الحياة أن هناك دين يرشدنا ويعطينا جرعات أمل تجعلنا لا نفقد رغبتنا في العيش، مهما عصفت بنا الظروف والمِحن .
التعليقات