قضيتُ شهرًا في ردهات واستشاريات النسائية والتوليد، ومن أكثر الأشياء التي تغيّرت فيَّ هذا الشهر، هي أنِّي أصبحتُ قليل حيا. موضوع الدورة الشهرية كان "تابو" في كل مكان يُطرح، حتّى وجدتني بعد اسبوعين أجلس مع الصبيِّة أو الثيِّب، وأسألهنَّ بالتفصيل عن يوم وكميِّة وانتظام آخر دورة.
بقي عندي الحياء في باقي المواضيع، فما كنتُ أستطيع أن أسأل عن الألم أثناء الجماع، أو زيادة الشعر في الجسم بسبب حالة مرضية ما، أو عن رائحة الافرازات، أسال عن وجودها ولونها عادي، لكن رائحة؟! أشعر أن الموضوع فيه تدخّل سافر في الخصوصيات! كنتُ أستعين بزميلتي وأؤشِّر لها بالانجليزية أن تسألهم هذا السؤال، تنخفض زميلتي إلى مستوى ركبة المريضة، وتسألها بصوت خافت مخيف، فتخفض المريضة رأسها بنفس الطريقة، تُجيب بصوت خافت، ولو رآهم الرائي من بعيد لظنَّ أنّهم يُسرِّون فضيحة!
بَوحٌ أكثر من اللازم
جلستُ ذلك اليوم مع عجوز، ولم أكن أدرِ ممَّ تُعاني (Cyst in Labia majora) فسألتها السؤال التقليدي عن سبب قدومها للمستشفى، فقالت عندي كيس دهني بـ (….) وقالت كلمة لم أفهمها، ظننتُ أنّها ريفية. فظللتُ أستفهم: كيس أين؟ أين؟! فملَّت العجوز منّي، حتّى قالت: يوووه! أقولُ لك عندي كيس في (….) وأخبرتني باسم المكان بالعاميِّة المتداولة.
للبوح دفئ خاص
لم تسمح لي مريضة بلمسها للفحص، بالأحرى لم أكن أتجرأ لأسأل هذا السؤال، لكنِّي كنتُ أشعر أنَّها تشاركني من معلوماتي الشخصية ما يعدلُ المسَّ، أرتني مريضة صورة جنينها الذي سقط في الحمام، قطعة من اللحم الحمراء، هناك شعور انساني دافئ في حصولك على ما لا يحصل عليه غيرك فقط لأنَّك ترتدي صدرية بيضاء، هذا البوح الإنساني يجعل المروءة تتدفَّق في العروق، وأقسمُ لو وضعوا الماجن في مثل هذه المواقف، لكان من أتقى الأتقياء.
كانت المريضة ترتجف، حرارتها مرتفعة، لم تكن قد أتت للمستشفى بعد الاسقاط مباشرة، شككنا في التهاب، ولا أدري ماذا حلَّ بها بعد اليوم
الحمل العنقودي رحمة
التعب الذي يُبثُّ بميمات على مواقع التواصل هو دلع بالمقارنة مع ما أراه على المريضات. رأيت شابة في الخامسة والعشرين، حملت ست مرّات، ولو تراها لقلتُ أنّها تُذرِّف على الأربعين. رأيتُ من زجَّها أهلها في الزواج مبكرًا، فأتت بحملٍ عنقودي كاذب وهي في السادسة عشر. لا أدري ما السرُّ في مرضى الحمل العنقودي، أشعرُ بتوتِّرهن من بعيد، أفكِّر أحيانًا إن كانت السماء ترحمهم وتعرف أنَّهن غيرُ مستعداتٍ لحملٍ حقيقي، فتخفِّف عنهن بهذا الحمل الكاذب، سِيما أنّ من تُشخص بهذا المرض، تحتاج أن تكفَّ عن محاولات الحمل حتَّى سنة كاملة، للتأكد من زوال بقايا هذا الحمل.
كفى حتّى لو كنتي حديدة!
رأيتُ إمرأة تُشارف على الخمسين، وحملت باثني عشر بطنًا، قالت لي مُرافقتها إنّها مرأة حديدية، تضعُ حملها وبعد ساعة تجدها تغسل الصحون، مدحتُ الخالة، فقالت لي هذا هيِّن! اختي حملت بـ 18 بطنا!
كانت الخالة قد أصيبت بتهدِّل الرحم، وهي حالة ينزل فيها الرحم من مكانه للخارج، وفيه اعلان من الرحم لحاملته: اعتقيني! 12 مرَّة؟!
نظرَت إليك بحاجة لم تقضها
أحيانًا يشعر المريض أنَّك تنفع وتضر، خصوصًا عندما تتحاذق في الأسئلة. والحالُ أنّا لا ندفعُ ضرًا ولا نأتي بنفع. في يوم رأيت حاملًا بمشيمة منزاحة نازلة، والمشيمة يجب أن تكون في الأعلى، عندما تكون نازلة فهي أقرب للنزف، وبهذا أتت المريضة للمستشفى.
كانت تُعطينا المعلومات وكأنّنا نداويها، ولا تدري أن ليس بيد الطلاب شيء.
كانت تُعدُّ لعملية قيصرية، لكنّهم لم يكونوا عجولين فلا علامات خطرة غير نزف يسير. قطعتُ مسافة في اليوم الثاني خصيصًا لزيارتها، عندما سألتها عن حالها اليوم؟ رأتني بنظرة عتاب: أصبحتُ أسوأ، نزفتُ أكثر! إنّهم يعدّوني لانهاء الحمل ولازالة الرحم غدًا.
اخترقَت نظراتها المعاتبة روحي، ما كنتُ أستطيع فعل شيء، تمنِّيتُ لها السلامة، ولم أرها بعد ذلك اليوم.
همومنا تختلف مع الزمن
المبايض تُطلق البويضات، إن خُصِّبَت نتج الجنين، وأن لم تخصَّب جاءت الدورة الشهرية،اطلاق هذه البويضات يتطلّب أن تكون الهورمونات متّزنة، وفعّالة بدرجة طبيعية.
عندما يحصل خلل في كميّة هذه الهورمونات، يفشل المبيض في اطلاق البويضات. فتتعدّد المشاكل، تارة تشتكي المرأة من عدم انتظام الدورة، وتارة من العُقم، وأحيانًا بعض الصفات الأخرى الناتجة من خلل الهورمونات، كالحبوب وزيادة الشعر والسمنة.
جلستُ مع طالبة بكلوريا بعمر 18 سنة، كانت تتوجَّع وتشتكي من الألم وغياب الدورة، كانت غِرَّة لا تعرف عن حالتها إلّا القليل، وتعزو كل الأسئلة لأمّها، لم تكن تريد من الحياة سوى ألم أقل، حاولت أن أهوِّن عليها: كلّ مشاكلك ستكون أقل بكثير عندما تنتهي البكلوريا، اساليني انا!
رأيت فتاة أخرى وفي وجهها سُمنة، فافترضتُ أنّ لها ذات الحالة، وكان الحقّ معي.
كانت طالبة في كلِّية الصيدلة، تُشارف على التخرّج، همومها مختلفة عن الصبيِّة، فهي تريد أن تنظِّم الدورة لتكون أنحف لصورة التخرّج. تذكرتُ ما قلته للصبيِّة، اساليني انا، بعد أن تنتهي البكلوريا ستختفي معظم هذه المشكلات، وسيكون لك هموم أخرى!
المشاعر تنبعث من الغرفات
استشارية الأورام كئيبة، هناك شكوك بين الحياة والموت، المريض عندما يسمعُ بالورم يفرغ. في مقابلها استشارية العقم، نفس طعم الكآبة، لكنَّ بعض الشرّ أهون من بعضِ، إنّهم يريدون أن تنبعث الحياة من أجسادهم.
أمَّا غرفة انتظار السونار، ورعاية الحوامل، فهي أقرب للبهجة، حوامل يقاربن على شهرهنَّ التاسع، ينتظرن موعدًا للاحتفال بالمولود الجديد.
وصالات الولادة الطبيعية؟ إنّها تعجُّ بالصراخ، كلُّ واحدة منهنَّ تنادي بما تقدِّس، لعلَّه يخفُّف ألمها. في حين تغطُّ مريضات العمليات القيصرية في نوم عميق.
للكئيبات قصَّة!
أنجذبُ للمريضات الكئيبات، أشعرُ أنَّ هناك قصَّة كبيرة تنتظر البوح، حينما وجدتُ أربعينية تنتظر وحيدة في الصالة، ركضتُ إليها، وما خابَ ظنّي. كانت برحم طفولي، مشكلة ولادية، لم تعرف للدورة دمًا طيلة حياتها. لم أسألها عمّا إذا كانت قد تزوَّجت وإن كانَ مهمًا في التاريخ المرضي، لا أريدُ أن تراني أنظرُ لها بعيون متعاطفة، أظنّها اكتفت من ذلك عمرها كله.
أحيانا يتشابه المصير
جلستُ مع حامل مصابة بداء الذئبة، وهو مرض مناعي يهاجم فيه الجسم نفسه، ربما يعرّض الحامل لاسقاطات متكرّرة. عندما سألتُ الحامل عن سبب قدومها اليوم بالذات للخضوع للفحص؟ قالت أنَّها في الشهر التاسع، وأنَّ اختها أيضا بنفس الشهر، وهي مصابة بداء الذئبة مثلها، وقد مات جنينها أمس، وتخشى أن يكون مصيرها مثل مصير أختها!
سوء ظن!
أخبرتنا مريضة بأنّها مصابة بمرض في الأنابيب، وهو ناتج من التهابات جنسية تنتقل بين الشركاء، وحين سألناها عن عمل زوجها، كان جنديًا، لا أدري لماذا أسأنا الظنَّ بالرجل ورميناه بالتهم في قرارة أنفسنا! لا أدري، ربما منظر المريضة كان بريئًا.
ثمَّ كنتُ أمرُّ بيوم جيد، عرفتُ مريضة تكيّس المبايض من وجهها، كنتُ واثقًا من نفسي، فرأيت صبيِّة قصيرة، تبدو بالغة، فقلتُ لمن معي: ذات الحجاب الأخضر تبدو كمن تعرَّض لبلوغ مبكّر، فسبّب هذا لها القُصر (لأنّ نهايات العظام تُقفل سريعًا بفعل الاستروجين من البلوغ) فركضنا خلفها وأوقفناها: عذرًا، هل جئتي لعلِّة اليوم؟ هل فيكِ ما افترضنا؟! فقالت لا، لا أشكو من شيء، أنا قادمة مع أمِّي، هي المريضة!
التعليقات