أشياء جميلة

خيوط بلورية تخترق فتحة ذلك المنزل الكبير.. تتسلل بهدوء بين جذوع شجرة ضخمة تتوسطه ..

تعبر ببطء زجاج النافذة ، و تتوغل بعنفوانها محطمة ملامح الظلام بغرفتي .

هناك فوق الجذوع ، على حافة خشبة الهدوء تعزف العصافير أروع الألحان مغردة مترنحة بحركات سريعة منتقلة بين الأغصان وهي تبتسم ..

إستيقظت باكرا و إستيقظ معها كل شيء بذلك المنزل ، دبت فيه الحياة من جديد ، كان صوت خطواتها و هي تعبر الرواق يطغى على كل صوت ، بل يسكت كل الأصوات حولها .. يصمت الصباح و تتوقف العصافير عن العزف ،و يحمر و جه السماء من الخجل ،تنهار الدقائق و يتوقف الوقت عن العد ..

ذلك الصوت ، صوت خطواتها حين تمر بجانب غرفتي ،لا يوقظني و لكنه يحدث جلبة بداخلي دون أن أدري ..

تدخل إلى المطبخ ، بكل نشاط تتجول بخفة مثل نحلة بين زهور الياسمين و الريحان ..تحضر القهوة و تضع قصعتها القديمة التي تكبرني سنا ، و تتنقل بأرجاء المطبخ و تجهز كل ما تحتاجه لتحضر دوائر المدلوك الشهية ، التي أحبها ..

تبقى هناك بالمطبخ وسط غيمة ضبابية ، محتجزة وسط روائح الفطائر و عبق قهوة الصباح الإستثنائي..

تفتح باب غرفتي بهدوء تتقدم نحوي بكلمات دافئة تحاول إيقاظي

أهمهم ببعض الكلمات ، لم تكن تدري أن صوتها مثل تعويذة تجعلني أغوص بوسادتي أكثر و أكثر ، و يطيب نومي و تتزين أحلامي و تغدو أجمل ، تبقى واقفة بقربي تنظر إلي ...ثم ماذا تفعل ؟

تستسلم أمام عناد صغيرها ، تضع وسادة بجانبي وتنام بقربي، جاءت لتوقظني فنامت بجانبي كالعادة..

هي تذكرني بتلك اللحظات الجميلة التي إنقضت ، ماتت بذاكرتي أما بذاكرتها فهي لم تمت ..أعرف ، لا أذكر كثيرا منها ، فقط هكذا شيء من ضوءها شيء من حركاتها يمر أمام شاشة عقلي من حين لآخر ، تتربع على الأرض و تضمني إليها و تخبؤني بأحضانها ، تحركني و تلوح بي يمينا وشمالا ، لو تدرين ، ليتك كنت تعلمين، فالعالم كله كان يهتز معك ..

تربت على كتفي بهدوء ، تتجول بأصابعها المخملية بين حدائق الزهور برأسي ، أنام على صوتها على ألحانها حين كانت تتكلم أو تحكي ، بحب و حنان كانت تعزف لأجلي أروع المقطوعات ..التي كان قلبي على إيقاعها يرقص ، يصفق و يغني ..

يأسرني ذلك الزمن الجميل حقا ، بأياد دافئة يداعب الحنين قلبي ، و يأخذني عبر دوامة الماضي ، فأعود من جديد طفلا صغيرا أحبو و أبكي .. ألعب و أجري ..أجد نفسي فجأة بين جدران تلك العائلة جالسا حول مائدة رفقة جدي و جدتي ..و حكايا قديمة من زمن غابر إنقضى ..على ضوء الشموع نتشارك كل شيء حتى الحب

هناك وسط الظلام تعلمنا كيف نربي الأمل ..كيف نقتاة على فتاته

كيف نعيش حياة بسيطة خالية من القلق ، كيف نحلم بالغد ..

كان لكل شيء طعم خاص و رائحة مميزة ..

لو تعلمين ..

فكل شيء تغير ..و يتغير كل يوم

تلاشى كل شيء اليوم و لم يعد لنومي طعم مثلما كان بالصغر ، كنت صغيرا و لا أزال صغيرا في نظرك ..و سأبقى ذلك الطفل الذي نمى مثل شجرة بين يديك ، تلك البذرة التي كبرت بداخل قلبك ..لا زلت صغيرك و سأبقى للأبد ..

إستيقظت هي و لا زلت أنا نائما ..

فوق طاولة بغرفتي وضعت كوب القهوة و فطيرتين ساخنتين و أيقظتني مجددا ، أفق أيها الكسول إلى متى ستضل نائما ..

رائحة المدلوك كانت تعبر أنفي دون طرق الأبواب توقظ شهيتي و تحدث الكثير من الإزدحام بمملكتي ..

أستيقظ ببطء ..أحمل جسدي بصعوبة عن الأرض بخطوات أتمايل يمينا و شمال ..من الصعب الوصول الى صنبور الماء

هناك بنهاية الرواق باب موارب لغرفة يصدر منها

صوت مألوف، مألوف و لكنني لم اتعرف عليه ..

كان الصوت يزداد حدة كلما إقتربت نحوها..

فتحت الباب و دخلت بهدوء ..لم تنتبه إلى خطواتي و انا اتجاوز الباب ..

كان الضوء يطغى على كل جزء بتلك الغرفة و ينعكس بالأرضية .. أفتح عيني بصعوبة و انا أتأملها و هي تحرك تلك الطاحونة بكل حب و شغف ، و كأنها تحرك الزمن معها ..لم تكن طاحونة و حسب بل كانت آلة الزمن التي تركبها كلما ضمها الحنين إلى جدرانه كلما حصرها الماضي الجميل بزواياه ..

كانت مثل كل رسام يستمتع بمغازلة لوحاته ..تحب القيام بكل ما هو قديم ..دون كلل او ملل

مثل لوحة فنية نادرة ..مثل زمن جميل عطر كانت ..

مثل وردة نائمة بين صفحات كتاب قديم ..فقدت شيئا من اوراقها و لكن عطرها لازال قائما ..

نظرت إليها و هي تحرك تلك الطاحونة الحجرية القديمة و تحمل بين يديها حفنات من القمح و ترميها بداخل تلك الكتلة الحجرية ..

تراجعت بخطوات إلى الوراء و قررت الإنسحاب و لكن قلبي كان يدفعني إلى الأمام أكثر و أكثر ..بقيت لبرهة أتأملها ثم تقدمت نحوها ..عانقتها و الدموع تملأ أجفاني ..

بقيت مندهشة ، و أوقفت حركة الطاحونة و ضمتني إليها ..ما الذي حدث معك يا صغيري ، أنا هنا فلماذا تبكي ..

لزمت الصمت ..و عم السكون قلبي ..ظننت أنها لن تفهمني ... ....و لكنها كانت تفهم كل شيء حتى صمتي ..

كانت الأيام تمر و كنت كل يوم أتمنى أن تتوقف السنوات عندها و يكف الوقت بمروره السريع على مضايقتها ..

أستيقظ كل صباح مفزوعا من تلك الكوابيس التي تداهم أحلامي كل ليلة ، مثل مجنون تجدني أجول الغرف باحثا عنها أصرخ بإسمها

بكل صباح كنت أخاف أن أفقدها رغم خوفها المسبق علي

كان المرض من حين لآخر يزور جسدها و يهز الجدران بداخلي أمرض لمرضها و أتعثر و أسقط لسقوطها ...

هكذا كنت و مازلت انا...

#موساوي عبد الغني ♤