يومُ غدٍ الثامنُ عشر من ديسمبر هو اليوم العالمي للغة العربية كما حددته اليونسكو. و على الرغم من أن اللغةَ العربيةَ تسكنُ قلوبَنا و ألسنتَنا طوالَ العام ِ، إلا أنَّ مثلَ هذا اليوم يمثلُ فرصةً لتجديدِ الاحتفاءِ بها؛ بتذاكرِ محاسنِها، و التذوقِ من رحيقِ آدابِها، و تدارسِ حالِها و واقعِها، و استشرافِ مستقبلِها الزاهرِ بإذن الله.
لا شكَّ في إن واقعَ اللغةِ العربيةِ على ألسنةِ أبنائها مؤلمٌ و مخزٍ، و لكنَّني آثرتُ في هذا اليومِ أن أُردِّدَ حبَّها و محاسنَها، و أن أشدوَ نشيدَ المرحلةِ الابتدائيةِ:
لا تلُمْني في هواها ... ليس يُرضيني سِواها
لستُ وحدي أفْتديها ... كلُّنا اليومَ فِداها
نَزلتْ في كلِّ نفسٍ ... وتَمشّتْ في دِماها
فَبِها الأمُّ تغنًّت ... وبها الوالدَ فاها
وبها الفنُّ تجلّى ... وبها العلمُ تَباهى
كما أحببتُ أن نتذاكرَ خصائصَها التي تميزُها عن باقي لغاتِ الأرضِ و التي استعرضها د. سميح أبو مُغلي في كتابِه " في فقه اللغة و قضايا العربية" (1407)، حيث يقول:
اللغة العربية لغة فذة فريدة من نوعها، لها مميزات و خصائص لا تشاركها فيها لغة أخرى على الأرضين، لا أقول هذا عن تعصب لأنني عربي، و العربية لغة آبائي و أجدادي و لغة من حولي من أصحابي و خلاني، و لكنني ألمس في العربية هذه الخصائص كما يلمسها غيري ممن سبروا أغوارها و كشفوا أسرارها.
فمن خصائص اللغة العربية وفرة كلماتها، و كثرة ألفاظها، و لذلك أسباب كثيرة أدت إلى هذه الضخامة في الثروة اللغوية؛ منها أنها لغة اشتقاقية تقليبية، و مع أن الاشتقاق موجود في كثير من اللغات، إلا أنه في اللغة العربية أوسع و أظهر فمن الفعل في العربية تشتق اسم الفاعل، و اسم مفعول، و اسم زمان، و اسم مكان، و اسم آلة، و اسم مرة، و اسم هيئة، و مصدرا صناعيا و مصدرا ميميًّا، و صيغ مبالغة، و صفات مشبهة، واسم تفضيل و اسم تصغير، و اسما منسوبا، و ذلك بالإضافة إلى الفعل الماضي و المضارع و الأمر، و أنواع الجموع و غيرها في حين تكاد تقتصر أكثر اللغات الاشتقاقية على الشيء اليسير مما ذُكر.
هذا بالنسبة للاشتقاق اللغوي، أما التقليب، و هو الذي عرفه لغويونا القدامى باسم الاشتقاق الكبير أو الأكبر، و هو عبارة عن تقليب حروف اللفظة الواحدة على عدة وجوه من جراء تقديم أو تأخير هذه الحروف و الحصول على معان جديدة متقاربة، فهو من خصائص العربية التي لا توجد في سواها بشكل واضح ملموس و أول من تنبه إلى وجود الاشتقاق الكبير في اللغة العربية هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، ثم أخذ الفكرة عنه تلميذه أبو علي الفارسي الذي أوصلها إلى تلميذه ابن جني فبحثها بشكل موسع في كتابه الخصائص، فانظر إليها هناك.
و من أسباب ضخامة معجمها اللغوي أيضا المجاز، حيث تمتاز اللغة العربية بكثرة مجازاتها، حتى لقد أسماها بعضهم لغة المجاز، كما في كتاب اللغة الشاعرة للعقاد.
و يكثر في اللغة العربية الترادف و الاشتراك اللفظي، أما الترادف فهو أن تدل كلمتان أو أكثر على معنى واحد، من ذلك الثراء بمعنى الغنى، و اللفظتان مترادفتان، و الإملاق بمعنى الفقر فهما مترادفتان. و أما الاشتراك اللفظي فهو أن تشترك عدة معان في لفظة واحدة. فالعين مثلا تدل على نبع الماء، و عضو البصر في الإنسان و الحيوان، و على الجاسوس، و على النفس أو الذات إذ نقول هو عينه أي نفسه، و تدل كذلك على عضو مجلس الأعيان؛ فهذه المعاني و غيرها تشترك في لفظة واحدة تدل عليها، و هذا ما يسمى بالمشترك اللفظي. و هو موجود في معظم اللغات و كذلك الترادف، غير أنهما في العربية يكثران، و تكثر أمثالهما حتى ليُعتبران من خصائص هذه اللغة.
و من خصائص اللغة العربية كذلك وضوح مخارج الأصوات و عذوبة النطق بها، و قد اهتم العرب منذ القدم بمخارج أصواتهم، و صنف الخليل بن أحمد الفراهيدي معجم العين، أول معجم عرفه العرب، و فق مخارج الأصوات العربية. و في اللغة العربية أصوات كالحاء و العين و الغين و القاف و الضاد تكاد لا توجد في لغة غيرها، تخرج من مخارجها في جهاز النطق لدى الإنسان العربي ناصعة واضحة مميزة.
و كثير من الألفاظ في اللغة العربية أشباح لمعانيها تدل عليها حتى للذي لا يعرفها. فكلمة مثل صرصر تدل على وقوع الصرير بتقطع أو على فترات، و كذلك نهنه، و كركر، و هرهر، و لملم، و دمدم و صلصل و جرجر إلخ .. و هذه ميزة لعلها لا توجد في لغة سوى العربية.
و لعل من أهم خصائص اللغة العربية اطراد القياس في أبنيتها، و قلة الشواذ بالنسبة إلى غيرها، فاسم الفاعل من الثلاثي دائما على زنة فاعل مثل: كاتب وَ وارد وَ قائم وَ عازم، و من غير الثلاثي على وزن مضارعه مع إبدال ياء المضارعة ميما مضمومة، و هكذا كل المشتقات تصاغ على أبنية قياسية دائمة، و لكل صيغ الكلم العربي أوزان مطردة القياس على الدوام، تكاد لا تشذ عنها لفظة واحدة في حين تعج اللغة الإنجليزية مثلا و هي أكثر لغات هذا اليوم انتشارا بالشواذ التي تغلب على كل قاعدة منها سواء كان ذلك في النحو أم في الصرف أم في اللفظ. و قد امتازت اللغة العربية بأنها اشتقاقية تحليلية أكثر من أخواتها الساميِّات، و من كل اللغات الأخرى.
و تكاد لا توجد لغة في المعمورة تشارك العربية في كثرة أساليبها و تنوع طرائق التعبير فيها حتى أضحت كتب البلاغة العربية تنوء بما تكدست فيها من ضروب البيان و المعاني و البديع.
و اللغة العربية التي حملت معجزة الإسلام و أوفت بما اقتضته الحضارة الإسلامية و العربية في أزهى أيامها، سواء أكان ذلك في عصور الترجمة أم في عصور النضج و الإبداع، في شتى مناحي الفكر و العلوم و الآدب، لقادرة اليوم على مواكبة إطراد تقدم الحضارة في عصر الذرة و السرعة و اقتحام الفضاء.
وسعتُ كتابَ اللهِ لفظًا و غايةً ... و ما ضقتُ عن آيٍ بهِ و عِظاتِ
فكيفَ أضيقُ اليومَ عن وصْفِ آلةِ ... و تنسيقِ أسماءٍ لمخترعاتِ
و هي لغة القرآن الكريم و الحديث الشريف، و التراث العربي الثرّ، و التاريخ المجيد و دراسة ذلك باللغة العربية ينمي اعتزاز العربي و ثقته بلغته وبأمته.
و هي اللغة الدينية لملايين كثيرة من المسلمين المنتشرين في شتى جوانب المعمورة من العرب و غير العرب. و قد أصبحت اللغة العربية لغة علمية ورسمية تستخدم في الهيئات الدولية و مؤسساتها العلمية و السياسية و محافلها المختلفة، كما أصبحت تعلم في معظم جامعات الدنيا، و تترجم بها كتبها إلى كل لغات الأرض.
فلهذه الأسباب و غيرها، و لما للغة العربية من مزايا وخصائص، و مكانة رفيعة سامية، وجب على أبنائها أن يعتزوا بها، و أن يديموا العمل على تطويرها لتظل مسايرة للركب الحضاري الذي لم تتخلف عنه قط.
التعليقات