{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
بصفتنا كائنات محدودة القدرة والتقدير، ولا ندرك دواخل الأسباب ومقدّرات الأمور في وقت حدوثها، فإننا – وإن لم نقف لنتفكر ببصيرتنا في جلّ ما يحدث من حولنا – قد تُغَيَّب بصيرتنا عن لطف الله في كل مسيرات هذه الدنيا.
ولعلّ أبرز ما نغفل عنه هو أننا غير متكلَّفين بالأسباب، ولم يُطلب من الإنسان على طول الدهر أن يخلق أو يُنشئ الأسباب، بل على العكس تمامًا، فنحن محكومون بالأسباب التي خلقها الله عزّ وجلّ، والأمثال والعِبَر موجودة من حولنا لإثبات هذا الكلام.
في قصة يوسف الصديق مثلًا، كلّنا أدركنا وشعرنا بلطف الله في يوسف، وجبران الله لخاطره بعد عدوان إخوته وظلمهم الواقع عليه، وكيف أخرجه الله من ظلمات البئر إلى عتبات حُكم مصر، فأصبح عزيز تلك الأرض.
وأيضًا كيف مسح الله على قلب يعقوب، وأقرّ عينه، وجمعه بيوسف بعد فراق دام لأكثر من عشرين عامًا.
لكن عظمة هذه القصة وعِبْرتها لا يمكن اختزالها في صبر يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام.
خروج الطفل من كنف أبيه إلى ظلمات البئر، ثم إلى أسواق العبيد، ومن ثم إلى غياهب السجون، ليس فقط لاختبار صبر يعقوب أو لتهيئة يوسف ليكون رسول الله؛ بل كان لطف الله أكبر من تلك السطحيات.
فمن بعد كل تلك المحن والابتلاءات جاء يوسف إلى أرض مصر لينقذ أهلها وأهل القرى المجاورة من مجاعةٍ وقحطٍ كان آتيًا عليهم، ولأن الله – عالم الغيب – يعلم مسبقًا أنهم لا يملكون من العلم إلا قليلًا، ولن يستطيعوا إيجاد الحل لتلك المصيبة، فقد يسّر الله لهم يوسف، الذي أُوتي من الله حكمةً وعلمًا.
وكانت لحكمته وعلمه خيرٌ كثير، وكان هو قدرَ الله المنجي من مصيبة كانت ستخلّف وراءها ملايين الضحايا، ولم يكن فقط رسولًا قادمًا إليهم لتبليغ الرسالة أو لفتنة زليخة زوجة العزيز.
ولم تقف حكمة الله وسرّه في يوسف عند هذا الحد، فبعد سنين العجاف، وبعد أن أنقذهم يوسف من تلك المصيبة العظيمة، مَنَّ الله على أهل مصر بالهداية واتباع طريق الحق، وأدخلهم في رضوانه.
فكان يوسف – مرة أخرى – هو الوسيلة وسبب الله للملايين من أهل تلك الأرض لهدايتهم واتباع هداه ودخولهم في رحمته ودينه الحنيف.
وأيضًا لتبقى هذه القصة عبرة وتذكرة لآخر الزمان؛ فمن المعيب أن نختزل حكمة الله فيها فقط في يوسف ويعقوب، وننسى ذلك الأثر العظيم ولطف الله ومشيئته التي قدّرها على يدي يوسف الصديق.
وهنا، بعد أن اجتمع يوسف بأبيه وهو عزيز مصر، نستطيع أن ندرك معنى قوله تعالى:
{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
لطيفٌ في أقداره على عباده، وواسعُ الحكمة والعلم في تسيير أمور الدنيا كما يشاء.
---
{قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}
وفي سياقٍ آخر، ولندرك كيف يجبر الله خاطرك ويحقق أمانيك التي هي حبيسة صدرك ولا تنطق بها، يتجلّى الله بجَبْرانه ليمسح عن قلبك آثار الكدر والغمّ التي لم تُبح بها.
كان الرسول ﷺ يُصلّي جهة بيت المقدس، وكان يتمنى أن تكون قبلة المسلمين مكة، وكان ينظر فقط في السماء جهة البيت الحرام ولم ينطق لسانه أبدًا، فكانت في صدره خاطرة!
فجاءته بشرى الله:
{قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}
فأصبحت مكة – كما تمناها رسول الله في قلبه – هي قبلة المسلمين، وجبر الله خاطر رسوله دون أن ينبس ببنت شفة.
---
"لو لم يحاول الرجل أن يغتصب الفتاة، لما حُرِّرت القدس."
لنَعُد الآن إلى الأسباب والعبقرية التي رُسمت وكتبت فيها الأقدار، وكيف أن محدوديتنا كبشر لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخرج عن تلك الأقدار.
وكيف أن الله، حين يريد لشيء أن يحصل، يُسَيِّر كل الكون وكل مسبباته ضمن ضوابط وأحكام الكون (بدون معجزات)، فقط ليُغلِب أمره على كل شيء.
فمهما بلغ تخطيطك وتدبيرك، فإن النهاية معروفة دائمًا: أن الله غالبٌ على أمره يا عمّ.
كان والي الشام "عماد الدين زنكي" يقاتل مع جيشه ضد السلاجقة، وفي خضمّ القتال انسحب "عماد الدين" مع جيشه ولجؤوا إلى العراق، وتحديدًا قلعة تكريت.
وفي تلك الأثناء نزل "عماد الدين" في ضيافة رجل اسمه "أسد الدين شيركوه"، فأحسن هذا الرجل ضيافته وقدّم له الحماية، وترك أثرًا طيبًا في قلب "عماد الدين"، فحفظ له ذلك المعروف وعاهده أن يردّه له ولو بعد حين، ثم رجع بعدها "عماد الدين" وجيشه إلى الشام.
وبعد تلك الواقعة بعشرة أعوام – ولا زلنا في العراق – كان "أسد الدين" يتمشى ليلًا في المدينة، فسمع فتاة تصرخ وتطلب المساعدة، فأقبل عليها "أسد الدين" ووجد الفتاة بين يدي رجلٍ يحاول اغتصابها، فقام بقتل الرجل.
ولأن العُرف المتداول لدى العرب آنذاك أن القاتل وأهله يغادرون المنطقة التي يسكنون بها، بدأ "أسد الدين" وأهله بتوضيب أغراضهم للسفر من العراق.
وفي أثناء ذلك، وُلِد لأخيه طفل، فتشاءم الجميع بهذا الطفل، وقالوا:
"في اليوم الذي نُهجّر فيه من بلادنا ونرحل إلى المجهول، تولد أنت؟ فالأكيد أنك نَحْس وشؤم، وبئس الطفل أنت!"
المهم، توجه "أسد الدين" وأهله إلى الشام عند صديقه "عماد الدين"، فأراد زنكي أن يرد المعروف إلى "أسد الدين"، فقام بتنصيبه قائدًا لجيشه.
وتربى ابنُ أخيه "المشؤوم" في كنفه وتحت رعايته، فكان يرافقه في الحروب وتربى معه في تلك الظروف الصعبة، وصار مقربًا منه.
وبعد وفاة "عماد الدين" وعمّ الطفل "أسد الدين"، تولى ذلك الشاب قيادة الجيوش الإسلامية في الشام خلفًا لعمه، وبعد عدة أعوام حُرِّرت القدس على يده.
أي نعم، هذا الطفل "المشؤوم" الذي لُعن يوم مولده، كان اسمه صلاح الدين الأيوبي.
سُبِّبت كل الأسباب، وتيسّرت كل السبل، ليرحل هذا الطفل ويتربى في الشام، وفي أصعب الظروف، وفي قلب المعارك، فقط ليُيَسِّر الله فتح القدس وتحريرها على يديه.
فلو لم يحاول ذلك الرجل اغتصاب تلك الفتاة، لما حُرِّرت القدس!
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
التعليقات