في عمق بعض المجتمعات، يتجذر نمطٌ من التقديس الشعبي الذي يبدأ بجملة بسيطة متداولة على الألسنة مثل: "سيدي فلان هو لي وكلنا، وسيدي فلان هو لي مشربنا". لا تبدو العبارة مقلقة في ظاهرها، بل توحي بالحب والانتماء، لكنها تخفي وراءها مسارًا طويلًا من التلاعب بالعقول والمشاعر، يبدأ من العاطفة وينتهي عند خنق الوعي الجمعي، حيث يتحول الإنسان إلى تابع لا يسأل، ومستجيب لا يعقل.
تبدأ القصة ببناء ضريح، يُعلن عنه كرمز للتقوى أو الصلاح، وقد يكون لمجهول لا تاريخ له، أو لشخصية وُضِع لها اسم على عجل، ثم تبدأ الحكايات تنسج من حوله، وتنتشر روايات الكرامات والمعجزات، يتداولها الناس جيلاً بعد جيل حتى تصير من المسلمات. بعد ذلك، يبدأ الطقس في التشكل، ويُضاف إليه الذبح عند الضريح، لا لوجه الله بل لوجه الولي، ويصبح هذا الفعل الغريب مقبولًا اجتماعياً، ثم مطلوبًا شرعيًا كما يروج له بعض المتصدرين للناس.
وما إن يُبنى الضريح، حتى يصبح بؤرة جذب للفقراء والمحتاجين، حيث توزع الأطعمة وتُغرس في العقول فكرة أن البركة لا تأتي من الله مباشرة، بل من هذا المكان ومن صاحبه الميت. فيرتبط الخبز باسم الولي، ويتحول الطعام إلى أداة ربط نفسي، تُغرس في عقل الجيل الجديد منذ طفولته، حتى إذا كبر شبّ على عقيدة الطمع في الضريح لا على عبادة الله الواحد.
ويزداد الخطر حين يتحول الضريح إلى مزار شعبي، لا تديره فقط العاطفة، بل تحكمه مصالح ومكاسب، وتُنسج حوله خيوط من الخبث المنظم. فكل طقس هناك له تكلفة، وكل زائر هو مشروع استغلال جديد، ومع الوقت يتأسس نظام كامل من التضليل، تديره عقول تعرف جيدًا ماذا تفعل، وتستثمر في جهل الناس، لتبني من الوهم سلطة دينية بديلة، تنافس النص، وتستبدل الشرع بالخرافة.
الأدهى أن من يرفض هذه المنظومة يُتهم بقسوة القلب، أو بعدم احترام الموروث، رغم أن ما يُدافع عنه البعض ليس دينًا ولا عرفًا، بل استغلالٌ مموّهٌ بعاطفة، يهدف إلى إعادة تشكيل العقيدة عبر بوابة الطعام والكرامة الزائفة. إنها عملية اختطاف بطيئة للوعي، تبدأ بتمجيد ميت، وتنتهي بقتل الحي داخليًا، حين يفقد القدرة على التمييز بين الدين الحقيقي والدين الشعبي المزيف.
ويبقى السؤال العميق، الذي لا يجرؤ كثيرون على طرحه:
كم من الناس يركعون اليوم في داخلهم لأضرحة لم يعرفوا حتى من دُفن فيها؟
هل هي عبادة لله، أم عبادة لفكرة صنعتها المصالح، وسوّقها الجهل، ورضي بها الخوف؟
التعليقات