حين نبحث عن بدايات الحركات الفكرية، نجد أن معظمها وُلد من ألم حقيقي وحاجة مُلحة لتغيير واقع غير عادل. النسوية في بداياتها كانت صرخة ضد التهميش، ضد الظلم الواقع على النساء، ومطالبة بحقوق أساسية كالتعليم، والعمل، والتمثيل السياسي. هذه المطالب كانت عادلة، ولا يمكن لعاقل أن ينكر أن كثيرًا من النساء عبر التاريخ دفعن ثمنًا باهظًا لمجرد المطالبة بحق الحياة الكريمة.

لكن مع مرور الوقت، تتغير الحركات كما يتغير البشر. تسقط بعض القيم، وتُضاف أخرى. وهنا نصل إلى نقطة مهمة: حين يتحول الهدف من العدل إلى الصراع، ومن المطالبة بالحقوق إلى الهيمنة، تنحرف الرسالة وتصبح أداة للهدم بدل البناء.

عندما يكون الخطأ جماعياً، يقلّ الشعور بالذنب

هذه قاعدة اجتماعية خطيرة. فحين تُقنِع مجموعة من الناس بعضهم بأن ما يفعلونه طبيعي، حتى لو كان ضد الفطرة والمنطق، يسقط الحرج. ويصبح النُصح تخلفًا، والتساؤل عن المسار خيانة. هذا ما يحدث عندما يُهيمن فكر إعلامي أو ثقافي واحد، ويُقصى غيره. وهنا لا نتحدث عن حرية فكر، بل عن استبداد جديد، مقنع بابتسامة حرية زائفة.

عندما يخطئ أحدهم ولا يجرؤ على تصحيح الوضع، يُجبَر الآخرون على اتباعه

الخوف من الاعتراف بالخطأ يقود أحيانًا إلى تعميمه. يتحول الخطأ الفردي إلى نظام، وإلى سلوك مجتمعي. خاصة إذا تم دعمه من قبل قنوات إعلامية، أو نُخب فكرية، أو حتى عبر قوانين تحبس الاعتراض وتجرّم التفكير المختلف.

التكرار يعلّم الحمار، والإعلام يعرف ذلك جيدًا

عبارة قاسية ولكنها واقعية. الإعلام الحديث لا يكتفي بعرض فكرة، بل يكررها، ويضخمها، ويجعلها الخلفية الصوتية الدائمة لحياة الناس. وهكذا، تتسلل القيم الجديدة دون نقاش، وتُزرَع القناعات الجديدة دون تفكير. يتحول الإنسان من كائن حر إلى مستهلك مبرمج، يردد ما سمعه دون أن يدرك ما فقده في الطريق.

الالتزام أصبح يؤثر على بعض الصناعات التي تعتبر الجسد سلعة

الصناعات القائمة على تسليع الجسد – كالإعلانات، وبعض أنواع الأزياء، والترفيه الرخيص – لا تحب الالتزام. لا دينيًا ولا أخلاقيًا. لأنها ببساطة تحتاج جسدًا فقط، لا روحًا. تحتاج مظهرًا لا معنى. ولذلك، تهاجم كل صوت يدعو إلى الحياء، وتُسفه كل دعوة للتوازن، وتُقصي كل شخص يرفض أن يتحول الإنسان إلى منتَج يُباع ويُشترى.

ومن جهة أخرى، يُقنِعون الناس بأن يصبحوا سلعًا رخيصة

وهذا هو التناقض المؤلم: يطالبون الناس بالحرية، ثم يدفعونهم لبيع أنفسهم تحت اسم "تحقيق الذات". يزرعون فكرة أن "قيمتك في جسدك"، و"حريتك في التمرد"، و"تحقيقك لذاتك في مخالفة كل ما كان". وبهذا، يتحول الإنسان إلى كائن فاقد للهوية، يُقاد من الخارج لا من الداخل.

الإسلام وحقوق المرأة: توازن لا يُجارى

قبل أن تولد النسوية بقرون، جاء الإسلام ليُعيد للمرأة إنسانيتها في مجتمع كان يدفنها حية. حفظ الإسلام للمرأة حق الحياة، وحق التعليم، وحق التملك، وحق الإرث، وحق اختيار الزوج، وحق الخلع، وحق العمل ضمن ضوابط تضمن كرامتها.

في القرآن، سورة كاملة باسم "النساء"، بينما لا توجد سورة باسم "الرجال". هذا ليس مجرد ترتيب، بل رسالة بأن للمرأة مكانة خاصة، وقضية متفردة.

النبي ﷺ كان يقول: "استوصوا بالنساء خيرًا"، وجعل حسن التعامل معهن من علامات اكتمال الإيمان.

والأم في الإسلام تُقدم على الأب في البر، قال رجل للنبي: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك."

الإسلام لم يُسلّع المرأة، بل حررها من التسليع. لم يجعلها تابعًا للرجل، بل جعلها شريكًا في بناء الأسرة والمجتمع. لم يربط قيمتها بمظهرها، بل بأخلاقها وعقلها وإيمانها.

وهذا هو الفارق:

الإسلام أعطى للمرأة حقوقها كإنسانة، بينما تُعطيها بعض الحركات الحديثة حقوقها كمادة.

هذا ليس هجومًا على فكرة النسوية كأصل، بل دعوة لإعادة تقييم المسار.

إن النقد لا يعني الرفض التام، بل هو واجب في كل مرحلة، لأنه من دون نقد... ينحرف القطار عن السكة، ويبقى الناس يصفقون له وهو يتجه نحو الهاوية.

هل ما يُعرض علينا اليوم في الإعلام هو امتداد حقيقي لنضال نساء مؤمنات بالكرامة؟ أم أنه انحراف تستخدمه بعض المصالح لهدم بنية المجتمع؟