في الأيام التي تكتظ بالأعمال والدراسة، والأشياء التي نحارب أنفسنا من أجل بلوغها، ومن أجل تعزيز الثقة بذواتنا لحتمية الوصول رُغم الإعاقات التي نتعرضُ لها في مسيرتنا الدراسية وفي حياتنا العلمية، منذُ أيامٍ قليلة طُلِب منّا إعداد بحث عن موضوع سياسي، وأرشدنا الدكتور إلى كتاب معين سيساعدنا في إيجاد ما نريد، لدي صديق يحب مشاركتي في كُلّ نشاط دراسيّ يُطلَب منّا.

فذهبنا إلى مكتبةٍ قريبةٍ مليئةٍ بالكتب الغنية بالمعلومات القيمة والموروثة بجوهرها الأدبي، الثقافي، السياسي، الاجتماعي، فتفرَّق كُلٌّ منّا بين صفوف الكتب للبحث عن الكتاب المنشود.

وجد صديقي الكتاب وأشار إليّ لأذهب إليه، جلسنا على إحدى الطاولات لبدء القراءة والبحث عن العنوان الذي اقترح لنا كتابته في بحثنا، ثم بدأ صديقي يحدثني قائلًا:

"لماذا لا تكتب عن السياسة وتصبح كاتبًا شهيرًا؟ قد تفوز بفضل ذلك بشهرةٍ وأجرٍ كبيرين."

وأخذ يسهب في سرد مزايا الكتابة في هذا الجانب وما الأشياء التي سأقدمها له دون توقف.

استمعت إليه حتى انتهى، ثم قلت:

"أحترم وجهة نظرك جدًا، لكنني أحب أن يفوز ما أكتبه بقلوب الناس، لا بجيوبهم.

لا أريد جعل قلمي أداةً تدعم الأحزاب وتنبذ بعضها.

السياسة لها نواحٍ كثيرة وتتقلب سريعًا.

لا يمكنني كشخص عاقل أن أظل على الرأي ذاته، فالظالم اليوم قد يصبح مظلومًا غدًا والعكس صحيح.

الكاتب الذي ينقاد وراء تيار سياسي معين قد يضطر للتضحية بنزاهته واستقلاليته الفكرية لتحقيق أهدافه، وهذا قد يفقده مصداقيته أمام الجمهور.

وبذلك يتحوّل الكاتب إلى تابع لأجندة سياسية معينة، يمكن أن يفقد مصداقيته أمام الجمهور الذي يعتمد عليه للحصول على تحليلات وآراء غير منحازة.

هذا الفقدان للمصداقية يمكن أن يكون مدمّرًا لمكانته وتأثيره.

السياسة هي سيف ذو حدين يا صديقي.

فأنا لست ضد الكاتب الوطني، بل ضد فكرة الانقياد لتيار سياسي معين، لأنها تؤدي إلى تآكل استقلاليته وتقويض مصداقيته.

والانخراط في السياسة على وجه العموم قد يتطلب اتخاذ مواقف تتعارض مع المبادئ الأخلاقية أحيانًا، وهذا يمكن أن يؤدي إلى صراعات داخلية ويؤثر سلبًا على السلامة النفسية والأخلاقية التي يعتز بها الكُتاب."

أجابني صديقي قائلًا:

"لكن من واجبات الكاتب نشر الوعي بين أوساط المجتمع، فهناك أطراف على خطأ يجب أن ينير ظلام جهلهم."

أجبته: "صحيح. لذا، فإن بداية هبوط المثقف تأتي من انقياده لتيار سياسي..

خذ هذه الشخصيات الإيجابية التي جعلت القلم أداة نزاهة فكرية ورفضت الانقياد الأعمى لأي تيار سياسي آخر، مثل:  عبد الله البردوني، عبد العزيز المقالح،  أبرز من يكونوا مؤثرين بشكل إيجابي حافظوا على توازنهم الثقافي ما بين الانخراط والاستقلالية.

بكل تأكيد دفعوا ثمن ضمان بقائهم أحرارا في المجتمع، ولكن نظرة القارئ إلى مساهمتهم السياسية تأتي من منظور النقد الوطني المستقل الذي يصحح الأخطاء ويساهم في بناء وطن خال من  المشاكل.

تبادلنا الحديث، ثم بدأنا بقراءة الكتاب الذي استعرناه بعناية وشرعنا في كتابة بحثنا بشكل ممتاز، تناولنا الأقلام والأوراق، وبتنا نغوص في صفحات الكتاب نستخرج المعلومات ونحللها ونناقشها فيما بيننا.

كانت لحظات مليئة بالتركيز والعمل الجماعي، حيث كنا نتبادل الأفكار ونبني الفقرات والجمل، شعرت بالإجهاد وبالإنجاز أيضًا.

كان إتمامنا للبحث خطوة كبيرة نحو هدفنا الأكاديمي، وأيضًا فرصة لاستخلاص العديد من الدروس المهمة.

أخذ صديقي وضعية الاسترخاء على الكرسي وأطلق تلك التناهيد التي حين تسمعها تظنُّ بأن صاحبها عليه هموم أهل الأرض جميعًا.

جلسنا معًا، فحدثني صديقي عن شغفه بالأدب والروايات وكيف أنه يرغب في القراءة بنهمٍ كبير، فكان يومهُ ممتلئًا بالحماس والأمل والتجديد لحياةٍ لها عوالم أخرى.

أخبرته أنني أؤمن بموهبته الفنية، مؤكدًا له على أهمية القراءة في حياة الإنسان وكيف لها أن تجعله إنسانًا ذا قيمة وعقلٍ وفكر، وأدبٍ وخُلُق.

وبعدما انتهينا، جلس صديقي وأخذ يتنهد مرة أخرى، وقال لي:

"فكري، أريد اقتناء رواية. ماذا تنصحني؟"

أجبته: "لا أعلم يا صديقي بماذا أنصحك، فكل منّا يقرأ بدرجات وعي مختلفة، نصيحتي لك هي عدم شراء الكثير من الكتب دفعةً واحدة، ركّز على جودة الكتب التي تقتنيها واخترها بعناية بما يُناسب ميولك وذائقتك الأدبية، واحرص على قراءتها وفهم محتواها جيدًا وغُص فيها غوص المتعطش لمعرفة المزيد من الإثراء اللغوي الذي يولّد الابتكار والفائدة المرجوة منه."

ذهب صديقي وعاد حاملًا كومة من الروايات المختلفة بين يديه. ضحكت لما رأيته، وقلت:

"لِمَ كُلّ هذه الروايات؟ ألم أخبرك أن تختار بعناية؟"

أجابني مبتسمًا: "أحب جدًا شراء الكتب والروايات."

قلت له: "جميل!، لكن هل ستقرأها أم تضعها فقط في رفوف المكتبة وتسعى لشراء المزيد؟"

قال: "سأقرأ القليل منها."

فقلت له: "إذن، لماذا تشتري كُلّ هذه الكمية من الكتب وأنتَ ستقرأ القليل؟"

ردّ: "لا أعلم."

قلت: "عُدّ بالكتب التي لا ترغب في قراءتها الآن وخذ حاجتك فقط، يمكنك شراء المزيد بعد انتهائك من قراءة ما لديك، ركّز على جودة القراءة وليس كمية الكتب التي تمتلكها.

اتفقنا؟"

أفهم تمامًا مشاعرك يا صديقي، فالقراءة أصبحت للأسف زينة لرفوف المنازل، يُشترى الكتاب للعرض وليس للقراءة. كما أن شراء الكتب أصبح أسهل من قراءتها وفهمها، وعندما قرر صديقي إعادة الكتب التي اقتناها كاملة إلى الرفوف، عاد إليَّ بوجه عابس، وقال:

"وأنت يا فكري، أعد الكتاب الذي اقتنيته، لا أنا ولا أنت نقتني كتبا اليوم، نظرتُ إليه دون أن أتفوه بأي حرف، أرجعت الكتاب إلى مكانه رغم أهمية شرائه، وخرجت أنا وهو دون اقتناء أي كتاب.

فكري محمد الخالد