كثيراً ما كنت أشاهد في بعض الافلام مشهد الملاكم المحترف ذو العضلات البارزة والجسم المنحوت والقبضة الحديدية الذي يدخل الحلبة وتهتف باسمه الجماهير، وهو يستعد لينازل خصماً يظهر من جسده وطريقة وقوفه أنه همجي لا يفقه شيء في القتال، وما إن تبدأ المباراة حتى نتفاجئ بتفوق ذلك الهمجي على بطلنا، مما يؤدي إلى سقوطه أرضا بعد تلقيه عدة لكمات عنيفة من خصمه، وبعد المباراة نلاحظ أن بطلنا ينظر لزعيم العصابة الذي أتى بمنافسه الهمجي وهو يبتسم، ومع العودة بالأحداث للوراء نجد أن زعيم العصابة هذا هو من دفع لبطلنا حتى يخسر النزال عن عمد، ولكن بشكل لا يبدو مبتزلا وبلا انسحاب، وبهذة الطريقة يحقق هؤلاء الزعماء ثرواتهم من وراء رهانات نوادي قتال الشوارع السرية، فهم يبحثون عن مقاتل مفتول العضلات قوي البنيان مستعرض في طريقة انتصاره وله رصيد انتصارات حافل، ويتفقون معه على أن يخسر أمام مقالتهم مقابل مبلغ من المال، وهذا وفقاً لنظرية إذا كنت تعرف الحصان الرابح فسوف تجني ثروة إن جعلته يخسر مرة وكنت قد راهنت على غيره، لأن كل المراهنين سيضعون أموالهم وآمالهم عليه، ولا يكون الأبطال أبداً سعداء بهذا الدور المبتزل، ففوق تعرضهم للضرب والإذلال من خصم هو أضعف منهم بكثير، فإنهم يفقدون الإحترام والمجد الذين كانا يتمتعون بهما أمام جمهورهم من المراهنين، خاصة بعد أن تسببوا لهم بخسارة فادحة، لكن ما يحملهم على هذا الأمر إنما هي الحاجة التي تدفعهم للمخاطرة، فإما أن يكونوا بحاجة للمال من أجل الزواج، أو من أجل علاج مريض عزيز عليهم، أوحتى من أجل الهجرة والخروج من البلد التي هم فيها، وأيا كان طموح البطل الذي يسعى إليه، إلا أن هذا الطريق الذي اختاره لتحقيقه لا يفلح أبداً، فإما أن يموت في أحد النزالات أو أن يرفض زعيم العصابة أن يدفع له، أو أن يرفض إكمال التمثيلية في الحلبة ويبدأ في تبريح خصمه ضرباً حتى ينتصر عليه، وهنا تنقلب كل الموازين، لأن هذا البطل حينها يكتشف قيمته الحقيقية ويحاول أن يثبت لنفسه وللآخرين أنه ليس سلعة يمكن شراؤها، وخاصة إذا استفزه الخصم ببالتشكيك فيه أو في قوته، لكن وقبل احتفاء البطل بهذا النصر، يباغته زعيم العصابة بنوع آخر من النزالات ليس فيه شرف أو مجد، ويدخل البطل في سلسلة من الصراعات الملحمية مع العصابة وزعيمها إلى أن ينتصر عليهم في نهاية الفيلم.

وقد لفتت تلك المشاهد نظري عدة مرات لارتباطها بسلوك المجتمعات السامة من وجهة نظري، فبمجرد أن يتمكن الأبوان من تربية إبنهما تربية سليمة صالحة ويراهنان عليه بحياتهما ومستقبلما، يجد الشاب نفسه أمام جتمع يطلب منه التخلي عن كل تلك المبادئ والأخلاق التي تربى عليها كشرط للإندماج والإنخراط وسط أفراده، فإن وافق وخسر الرهان وفقد ما كان يحوزه من شرف واحترام لم يكافئه المجتمع إلا بجعله واحداً من المهمشين والعامة الذين خسروا الرهان هم أيضاً وانضموا إلى القطيع، ولا يحصل حينها إلا على فتات مما كان يحلم به وهو يخسر ما تربى عليه عن عمد، وفي المقابل لا يتمكن من مساعدة والديه أو دعمهم بأي شكل من الأشكال، بل يبقى متواكلاً عليهم يطلب منهم المعونة في كل حين، أما إذا رفض الشاب التخلي عن تربيه أبويه له ويتمسك بما تعلمه من قيم، فإن المجتمع يحاول قهره بكل السبل حتى يثبت له أنه مخطئ في نظرته للحياة، فرغم أن الشاب بالفعل يكون طيب الخلق متعدد المهارات والخبرات، ويتمتع بالكثير من الصفات الحسنة، إلا أن شيوع الفساد في مجتمعه يجعله يرى طيب الأصل على أنه ضعف.

وهذا رغم أن قوة المقاتل لا تقاس بمدى قدرته على صرع خصمه أرضاً إنما تقاس القوة بمدى قدرة المقاتل على الوقوف على قدميه في الحلبة لأطول فترة ممكنة، فكلما زاد وقت النزال كلما تعبت أجساد المقاتلين واحتاجت للراحة وزاد فيها معدل الشعور بالألم، وحينا يتضح من هو الأقوى بين المتنازلين، فمن يظل واقفاً منهما حتى آخر دقيقة في النزال يكون هو الفائز وهو الأقوى بينهما، أما الذي يستسلم للألم والتعب ويبقى منبطحاً أرضاً فهذا هو الذي يخسر المباراة.

لذلك فإن الذي يصبر على أذى الناس هو بالفعل أقوى منهم وأفضل، لأنه قادر على تحمل ضغطهم على أعصابه، لكنهم سواء أدركوا ذلك أم لا فإنهم يحاولون منعه من الشعور بقوته، فيشككون فيه ويقلبون صفاته الحسنة إلى سيئة، فيتحول الصبر إلى قلة حيلة، والعفو إلى جبن، والكرم إلى سفه، والأدب إلى إنعدام خبرة، وغيرها من المسميات التي يدلس بها الفاسدون على الصالحين قيمهم التي تميزهم وتكون قوتهم الحقيقية، ويبقون هكذا حتى يظن الصالح أن به خطباً ما ويحاول مجاراة الفاسدين حتى يتمكن من التأقلم معهم، وما يمر وقت طويل حتى يدرك الصالح أنه وقع في فخ الفسدة وصار واحدا منهم، إلا أنه حين يدرك  الصالح أن قيمه وأخلاقه هي مصدر قوته الحقيقي وأن منافسيه ضعفاء ولا يقدرون على تحقيق جزء مما وصل هو إليه، يتخلى حينها عن مبلغ زعيم العصابة ويبرح خصمه ضرباً حتى النصر.