بسم الله الرحمن الرحيم

الغرب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

عندما اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا قام الغرب بدعم أوكرانيا بالسلاح والمال وغيره، حيث إنه يرى أن أوكرانيا شعب مظلوم ومقهور يواجه الغزو الروسي الجائر. ولكن الغرب يرى في نفس الوقت أن المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي هي إرهاب قبيح يستحق أن ترد عليه إسرائيل بأكثر الطرق وحشية، من قيامها بالمجازر والتهجير والهدم وأن ذلك حقها الكامل.

ورغم إن ذلك يبدو واضحاً للجميع، ولكن الغرب يبقى يردد العبارات المثالية في كل الأمور، دون أن يبالي بشدّة إجرامه في حق الفلسطينيين، ودون أن يبالي في رؤية العالم كلّه لوجهه الحقيقي وظلمه الشديد والصريح والواضح للفلسطينيين. ويبدو أن الغرب يرى أن إسرائيل فوق القانون ولا يحق للقانون أن يمسّها أبداً، أما الفلسطينيين فهم في نظر الغرب أدنى من القانون، ولا يحق لهم أن يطالبوا بتطبيق القانون لأجلهم أو لصالحهم.

وقد يقول القائل أن تعامل الغرب الوحشي مع الفلسطينيين هو بسبب حقدهم الدفين على الإسلام والمسلمين، ولكن يبدو أن الغرب كان في الماضي أكثر وحشية من ذلك، حيث كاد أن يبيد الهنود الحمر في أمريكا، وكاد أن يُبيد السكان الأصليين في أستراليا، وقد قام بأكثر المجازر وحشية في حق هذان الشعبان، ولكن الغرب استطاع أن يُطوّر من تفكيره وفكره، وقطع شوطاً كبيراً في ذلك، حتى وصل إلى مرحلة قامت فيها إحدى الدول الغربية، بإجبار شعبها على البقاء جياعاً ومنعتهم عن الهجرة لحين يطلبونهم أصحاب المصانع في مصانعهم، وذلك بعد أن تنتهي أزمات أصحاب المصانع ويعودون للعمل، خشية من أن لا يجدوا أصحاب المصانع عمال لتشغيل مصانعهم. ولكن السنين مضت وأكمل الغرب تقدّمه الحثيث في الفكر والعقل، وتخلّص من بعض جوانبه السيئة والشديدة القُبح، حتى وصل إلى العنصرية التي رفع هتلر رايتها عالياً، ولكن جزء من الغرب وقف أمامه وتصدّى له حتى هزمه، ودكّ العنصرية دكّاً، بينما استمرت العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب أفريقيا، ولكنها هُزمت في جنوب أفريقيا بتضحيات نيلسون مانديلا، وحوصرت العنصرية في النهاية في الولايات المتحدة الأمريكية، وتم القضاء عليها وتحطيمها، حتى أصبحت بعد ذلك في معظمها فعلاً ذميماً لا يناصره أحد، ويتبرّأ منه معظم الناس. ولكن يبدو أن هناك عنصرية وُلدت بعد ذلك ضد المسلمين هنا وهناك، أما بعد طوفان الأقصى وحرب غزة، ظهرت عنصرية من نوع غريب انتشرت بلمح البصر في أنحاء العالم ضد الفلسطينيين خاصّة، اعتمدها أفراداً وجماعات وسياسيين وحكومات في أنحاء العالم، فتم منع رفع الأعلام الفلسطينية ومنع الرموز الفلسطينية وتم منع المظاهرات المؤيدة لفلسطين، حتى وصل الأمر إلى أن قام أحدهم في الولايات المتحدة الأمريكية بقتل طفل فلسطيني عمره 6 سنوات طعناً بالسكين، وقام بمهاجمة الأم.

ولكن قبل ذلك استمر الغرب في تطوّر فكري حسَن ومثير للإعجاب، ولكن ظلّت لديه تشوّهات خطيرة للغاية، فبسبب شعور الغرب بالندم على اضطهادهم لليهود على مرّ التاريخ، حتى خُتمت في النهاية بالمحرقة على يد النازيين. وبسبب ذلك قام الغرب بتحويل أحد ضحايا النازيين ألا وهم اليهود إلى نازيين جدد في أرض فلسطين، ليرتكبوا الإسرائيليين جرائمهم الوحشية في حق الفلسطينيين وذلك على مرأى ومسمَع من العالم كلّه، بل وصل الأمر بالغرب أن أعطى إسرائيل الضوء الأخضر لترتكب ما تشاء من المجازر الوحشية في حق الفلسطينيين، حتى إنه قام بدعمها عسكرياً لتقتل في غزة كما تشاء، ودون حدود، كما حدث في أحداث طوفان الأقصى وحرب غزة، وكأن الغرب يريد أن يُمحي عن نفسه اضطهاده لليهود على مر التاريخ باضطهاده للفلسطينيين وإقامة المحارق تلوى المحارق في الشعب الفلسطيني على يد الإسرائيليين.

ولكن لا يزال بإمكان الغرب أن يواصل تقدّمه الحثيث في تطوير فكره وتحسينه، ليرتقي بنفسه من هذا التشوّه الشديد الذي لديه فيما يتعلّق بالمسلمين والفلسطينيين خاصّة، كما أن له أن يتبنى المبادئ والقيم الحسَنة التي يتحدث عنها دائماً ولكنه لا يطبّقها إلّا في حدود مصلحته، وعندما تُصبح في غير صالحه فإنه قد لا يتردد لحظة في التخلّي عن معظم تلك المبادئ إن لم يكن كلها، ويضرب بها عرض الحائط، ولا يكاد يُصبح لها في نظره أي وزن أو أهمية. ولكن الطبع أحياناً يكون بالتطبّع. وللغرب أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، والاعتراف بينهم وبين انفسهم بالشرور الكامنة في صدورهم، ولهم بعد ذلك أن يقوموا بمعالجتها ثم التخلّص منها. ثم لهم أن يحاولوا الاحتفاظ بما لديهم من أخلاق حميدة في شتّى المواقف ولهم أن ينبذوا الأخلاق الذميمة، في شتّى المواقف، ليواصل الغرب ارتقائه بفكره وثقافته.

وفي الختام قد يمكننا أن نرى بأن الغرب في تطوّر حقيقي ومستمر، وقد يأتي اليوم الذي يتشجع فيه الغرب لرؤية حقيقة وجهه الذي يلاقي به الفلسطينيين، ويبدأ بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم بانتزاعها من الإسرائيليين الذين استولوا على الكثير ولم يُبقوا للفلسطينيين إلّا القليل، ورغم ذلك لازالوا يطمعون بالاستيلاء على أكثر... هذا والله أعلم.