بمناسبة الثانوية العامة، وذلك القلق الذي يعانيه طلابها وكأنهم على مشارف آخر فرصة في الدنيا، وجدت الفرصة سانحة للتحدث قليلاً عن فكرة هامة وهي البحث عن الشغف.

في أثناء قراءتي لرواية الثائر الأحمر للكاتب المبدع على أحمد باكثير، كان بطل الرواية ويدعى "عبدان" فلاح بسيط، يقضي نهاره في الحقول بصحبة الثيران والغنم، وفي الليل يمكث في كوخه حتى تشرق الشمس فيعيد الكرَّة، تورط عبدان في مخالفة ما وأصبح أمر القبض عليه لا مفر له منه ، فنصحه قريب له بأن يترك البلدة ويهرب بعيداً عن عيون الشرطة ثم يرجع بعد وقت، وبالفعل هرب عبدان من القرية في جنح الظلام متخفياً في زي طالب علم، وحتى تنجح خطة هروبه ولا يلاحظه أحد ويبلغ عنه الشرطة، التحق بمجلس علم وانخرط فيه محمولاً عليه مع طلاب آخرين، وكان يدرس له علماء في حلقات منظمة، فاكتشف عبدان مع الوقت أنه يُحب تلك الدروس التي تلقى إليه ويجد فيها متعة وتسلية عما هو فيه من غم وهم، ومع مرور الأشهر أصبح عبدان من أكفأ التلاميذ وأكثرهم علماً وأقواهم حجة، ويقول متعجباً بعدما لاحظ ذلك التغير العجيب الذي تحول إليه :

"لو لم أهرب إلى هنا، لكانت حياتي ستضيع وسط الحقول والبهائم؟!...ما أعجب القدر الذي أوصلني إلى ما أنا فيه من حال، ما كنت سأصل إليه أبداً بنفسي"

توقفت لبعض الوقت وقلت لنفسي، أليس هذا ما حدث معي منذ سنوات قليلة؟

فلقد اهتديت إلى الكتابة بفضل قدَرٍ مرتب، وما كنت سأصل إلى تلك النقطة أبداً باختياري وترتيبي، والآن لي أحلام كثيرة وعظيمةفيها، حققت بعضها ولازلت أسعى. وفخور بما وصلت إليه وما يجيش في صدري من أحلامٍ بذاك القدر من الجمال.

ولكنني أتسائل.. إن كان "عبدان" لم يضطر إلى الهرب وتجربة العلم وأهله من خلال مخالطتهم..هل كان سيصل إلى شغفه الذي من خلاله اكتسب تلك القيمة العظيمة وأصبح بفضله ذو شأن، يطلب رأيه ويؤخذ بكلامه؟

وأنا! لو لم أكن قد اهتديت بالصدفة إلى عالم القراءة والكتابة، أين يا ترى كان سيستقر بي الحال؟ أظنُّ أنه كان سيستقر في مزالقِ الضياع ولا شئ غيره.

في كتابه "يوميات نص الليل" يناقش الدكتور مصطفى محمود تلك الفكرة ويقول :

"نحن في العادة نموت قبل أن نكتشف مواهبنا وقبل أن نتعرف على مميزاتنا، نموت بحسرة أننا أناس عاديون،

إن أم كلثوم كان من الممكن ألا تكتشف صوتها وكان من الممكن أن تضيع كأي فتاة قروية تسرح في الحقل وتقضي حياتها تربي الدجاج وتطعم البط لولا أن اكتشفها الملحنون واحتضنوا صوتها .

وكمال الطويل ضاع نصف حياته في محاولة الغناء قبل أن يكتشف أنه ملحن .

وعبد الحليم حافظ ضاع نصف حياته في محاولة التلحين قبل أن يكتشف أنه مغنٍ .

من قبل أن يكتشف كل واحد من هؤلاء الثلاثة موهبته كانوا جميعاً مجرد أناس عاديين ولكن الحقيقة أنهم لم يكونوا أبداً عاديين، وإنما كل واحد منهم كان من البداية عنده هذا الشيء الذي ينتظر معجزة الكشف عنه، وكل واحد منّا فيه ذلك الشيء، فيه تلك البئر التي تنتظر الكشف عنها والدقّ عليها لتنبثق في ينبوع من النعمة الإلهية لا ينضب إلا بالموت، والسر في أن أغلب الناس عاديون أن اكتشاف الإنسان لنفسه ، وتَعَرُفِهِ على كنوزه ومواهبه ليس شيئاً هيناً وإنما هو اكتشاف أصعب من غزو الفضاء .

وقليلون جداً هم الذين يستطيعون أن يقوموا بهذه الرحلة الشاقة إلى داخل نفوسهم ...

إنها رحلة أصعب من رحلة كولومبس وجاجارين ..."

إنها النعمة الإلهية! هكذا وصف الدكتور مصطفى محمود ذلك الإبداع الخفي الذي غرس فينا في مجال ما أو مسلك ما من مسالك الحياة، وقال أن السعي في داخلنا واكتشاف تلك النعمة الإلهية صعب..لكنها مهمتنا ولن يفعلها أحد مكاننا، فلا متطوعين ليأخذوك من يدك ويبحثون عن مزاياك، ولا مهتمين بإبراز ما خفي منك من إبداعٍ ما غير مرئي ولا ملحوظ.

فهل توقفت حياتك على أنك لم تلتحق بكلية معينة!...إنك لم تختار التعليم المدرسي أصلاً يا عزيزي المكتئب القلق. بالضبط مثلما لم يختار عبدان أن يقضي حياته في الحقل بين الثيران والغنم. فتدبر قليلاً.

وسؤالي لك يا عزيزي القارئ: كيف لنا أن نكتشف ذلك الشغف المختبئ بداخلنا، وما هي الطرق التي تؤهلنا للوصول إليه؟