صبيّ جنينيّ* و رجل ثلاثيني وكتاب

*جنيني نسبة إلى مدينة جنين فلسطين و التي ولدت بها قبل 60 عام.

في الإجازة الصيفية من كل عام وقبل خمسون عاماً من القرن المنصرم في جنين- فلسطين، كنت قد إعتدت مرافقة صديق لي في بعض الأعمال المهنية المؤقتة كإشغال للوقت بشكل مفيد، و لتوفير بعضاً من النقود، و أيضا و كما كانت تقول والدتي رحمها الله لإبعادي عن الأعمال الصبيانية و المشاكل التي كنا نثيرها كشقاوات صبيان تورط ذوينا في إشكالات لا حد لها.

من تلك الأشغال الصيفية، كان بيع قوالب الثلج لباعة التمر هندي والبرّاد في الكراج وسط المدينة (وكان اشهرهم أبو حسن)، فكنا نذهب يوميا نجر عربة صغيرة الى مصنع الثلج الواقع قرب مطحنة النفاع في شارع الناصرة مقابل مدخل مدرسة حيفا سابقا، فننقل قوالب الثلج منه الى الزبائن، و تلك مهمة شاقة ليس فقط لأن قوالب الثلج ثقيلة وزلقة، وعلينا ان ندفع العربة صعوداً عبر شوارع المدينة لنصل الى الكراج، لكن ايضا لأن الثلج مادة هشة مراوغة، خاصة في صيف جنين السبعيني، فعليك ان توصلها الى مشتريها بسرعة ودون إبطاء، أما اذا تباطأت و تكاسلت فستصل بالعربة يملؤها الماء الذائب من المرحوم "قالب الثلج"، ومن سيشتري منك ماءً باردً سائل؟؟؟؟!!!!!!.

بعد إنهاء العمل، كنت أقف أمام دكان الدمج (في الجهة الشرقية من الكراج) وكان بائع صحف ومجلات، حيث كنت أتظاهر أنني أطالع عناوين الصحف، والحقيقية أنني كنت أنظر فقط الى صور أغلفة المجلات، و الجرائد، و حينها كانت تصدر صحف "القدس،الفجر ،الشعب، البشير، ومجلات مثل العربي،الهلال، الموعد، البراعم وغيرها". ثم أصبحت لاحقاُ أشتري الجريدة (غالباً الفجر أو القدس)، ثم أقف في الجوار لأتصفحها.

 في احد الأيام دنى مني رجل ثلاثيني ابيض البشرة متوسط طول القامة، و قد كنت أراه يوميا يحضر الى دكان الدمج و يتناول منه رزمة من الجرائد و المجلات، فظننت لوهلة أنه بائع جرائد متجول، فدار الحوار التالي:

*الرجل الثلاثيني: أنا بشوفك كل يوم واقف تقرا الجرايد، إنتي كم عمرك، بأي صف؟

**الصبي: 11 سنة، ترفيع سادس.

* الرجل الثلاثيني:شو رايك أدلك على مكان فيه مجلات وصحف كثيرة وكتب كمان؟

**الصبي:بس انا ما معي مصاري اشتري كتب ومجلات. ( اعتقدت انه صاحب مكتبة لبيع الكتب) 

*الرجل الثلاثيني: ما تخاف بس انت روح عند دوار الشهدا، فوق محلات أبو الدوم و بيبلوس، مقابل بنسيون جنين و مطعم الفردوس، إطلع الدرج على الطابق الثاني، أنا بكون هناك.

في اليوم التالي ذهبت الى العنوان المذكور، فصعدت بضع درجات عريضة و عندما انتهيت الى الطابق الثاني، وإذ بي أمام قاعة ضخمة مليئة بخزائن خشبية مرصوص عليها كمية كبيرة من الكتب لم اكن قد رأيت بعددها من قبل؛ أُسقط في يدي، وكأني قد دخلت الى معبد بوذي (صمت شديد ورهبة تحبس الأنفاس) فتملكتني الحيرة والذهول، و عندما رقبني الرجل الثلاثيني صبيا متوتراً خجلا "، و قد كان يجلس في مكتب على يسار القاعة الكبيرة، يفصله لوح من الزجاج عن القاعة، أشار الي بيده ان أقترب وقال: تستطيع ان تقرأ كل المجلات و الصحف و الكتب، ثم التقط كتاب من على أحد الأرفف في القاعة وقال أنصحك بقرائة هذا الكتاب، و قال:هون ما في دفع مصاري مقابل المطالعة، ثم ابتسم "رغم أنهم قالوا لي لاحقاً أنه نادراً ما يضحك".

 تناولت منه الكتاب، و جلست على أحد الكراسي الخشبية التي تملأ القاعة و أمام أحد الطاولات الخشبية الصفراء والتي تملئ القاعة، وبدأت بالقراءة،ولم انتبه إلا على صوته يقول: انتهى الدوام اليوم تستطيع العودة غداً، وعدت في اليوم التالي وأكملت قراءته في يومين.

أما الكتاب الذي ناولني إياه ذلك الرجل الثلاثيني فهو "سيرة الملك سيف بن ذي يزن"

وأما المكان الذي ارشدني اليه: فهو مكتبة بلدية جنين1 في مبناها السابق2. و الذي أصبح مقصدي و محجتي كل أسبوع مرة أو مرتين، ثم لم أعد اكتفِ بالقراءة داخل المكتبة، بل أصبح لي اشتراك دائم فيها، فأختارُ كتابين لأعود بهما الى البيت و أقرؤها و أعيدهما بعد أسبوعين، و لعلي حينها كنت اصغر مشترك في المكتبه، و ربما اصغر متردد على مكتبة البلدية.

بَدَأتُ القراءة في ظهر يوم صيفي من عام 1974 في مكتبة بلدية جنين العامة، ولم تغادرني تلك العبادة حتى يومنا هذا. فلقد تملكني هذا الداء المحبب، و لم اشف بعد من هذا الفيروس الذي يدخل "ليس كمثل الكورونا الى رئتيك وحسب"، لا بل الى كل خلية في جسدك، و الى دماغك و الى قلبك و الى كل جزء من نفسك و كيانك، فيصبح صوتك الذي تتحدث به، وعينيك التي ترى بهما، و أذنيك التي تسمع بهما، و حدسك الذي يقودك الى شتى العوالم، و خياراتك و قراراتك، كلها تنبع من ما تقرأ و مما قرأت. أصبحت القراءة من تلك اللحظة هي هوسي الأول، " أما هوسي الثاني فهو السينما، الذي سأعود له مرة أخرى فهي قصة جنينية أخرى".

أما الرجل الثلاثيني "أبيض البشرة متوسط طول القامة" والذي قادني الى هذا العالم الساحر، فلا شك أنكم عرفتموه، إنه: "بشير العبوشي، أمين مكتبة بلدية جنين السابق.

عذراً يا صديقي ابو رامي (و لعلها صداقة من طرف واحد، فأظنك بعد ذلك اليوم قد نسيت من هو هذا الصبي)، رغم انك كنت تشير بيدك لي بالتحية كلما دخلت الى المكتبة، و أنت تجلس في مكتبك الزجاجي.

عذراً أبا رامي لأنني لم أزر مكتبة بلدية جنين منذ 40 عاما، منذ غادرت جنين للدراسة الجامعية،ولسوء الحظ فقد قلّ ترددي على ملاعب الصبا، وشغلتني المشاغل عن العودة الى ذلك المعبد الجنيني. عذراً لأنني لم أخبرك بتلك القصة، و أن فضل غرس بذرة نهم القراءة لدي يعود لك، فكان فضلا لا أنساه لا يقل عن فضل أساتذتي ومعلميّ طوال عمري في كل المدارس والجامعات التي ارتدتها.

لكل ذلك، كان حزني على رحيلك عن دنيانا مضاعفاً (يا الله لماذا لم اخبره بتلك القصة)، لذا أرجو ممن يعرف أسرة الفقيد ان يخبرهم بتلك الحادثة، ذلك أن إخبراها دَين في عنقي، و إحساسي بالذنب يحاصرني لأني لم أعد لزيارته منذ عقود، ولم أخبره بذلك الفضل والمعروف الذي لا ينسى.

تداعت الى خاطري هذه الذكريات وتلك القصة. عندما قرأت خبر وفاة الإستاذ الفاضل بشير العبوشي قبل اسبوع.

رحمك الله أيها الرجل الفاضل، و أعلموا انه وان كان لا يبتسم الإ قليلا، إلا أنه كان رجلاً نبيلاً، فاضلاً مبتهجاً من الداخل، متصالحاً مع نفسه، كريم الأخلاق و سخي العطاء.

***************************

ملاحظتين:

1-               تم انشاء مكتبة بلدية جنين عندما كان رئيس البلدية هو السيد حسني السوقي في عام 1966، في عام 1971 نقلت الى وسط المدينة قرب دوار الشهداء، كما يظهر في الصورة المرفقة، وكان المرحوم بشير هو أمينها لمدة تزيد عن 30 عاماُ.

2-               صورة المكتبة مأخوذة من أرشيف جنين الذي جمعه الأستاذ اياد جرار ابو كرم