لعلّ استعمار فرنسا للجزائر يعدّ واحدا من أشهر الاستعمارات التي عرفها التاريخ الحديث، فمدة مكوث فرنسا في الجزائر فاق القرن وثلاثة عقود، بالضبط 132 سنة. وخلال فترة الاستعمار هذه، استعملت فيها فرنسا شتّى الوسائل لمحو الثقافة الجزائرية من عقول ووجدان ذلك الشعب، أو بتعبير أدق، محو كيان الجزائر من الوجود. ولعل هذا الكيان لم يكن بذلك الوحدة التي يظهر فيها الآن، فلم تعمل الدولة العثمانية لا في عهد البايلربايات ولا في عهد الآغواتات أو الباشاوات أو الدايات على توحيد الجزائريين كما كانوا يركزون على الترف الذي حضي به الكراغلة والأتراك الجزائريون والذي حرم منه الأمازيغ والأندلسيون واليهود والعرب في نفس المجتمع.
وقد عملت فرنسا في الكنائس على التبشير بالمسيح، وفي المدارس على تدريس الجزائريين اللغة الفرنسية والمناهج التعليمية الفرنسية لتخرج جيلا لا يمت للغاته القديمة بصلة، لغات متعددة كالأمازيغية والعربية والترقية وغيرها كثير، وبعد الاستقلال، استقدمت الجزائر اساتذة من المشرق العربي خاصة من مصر وكانت أعدادهم بالمئات لتعليم الجزائريين اللغة العربية، وقد رافق ذلك مراسيم وقوانين لتعزيز اللغة العربية كالمرسوم الرئاسي 1964 الذي نص على استحداث مدرسة عليا للترجمة، ومرسوم 1968 الذي يفرض معرفة اللغة العربية على الموظفين. وقد أتى هذا القرار في غير محله كليا، إذ إن البلاد كانت في سنواتها الأولى من الاستقلال والشعب كان يعاني من مشاكل اجتماعية وثروات البلاد لم تأمم بعد، وكان آخر همّ أجيال من الجزائريين الذين يعرفون اللغة الفرنسية وحدها هي تغييرها إلى لغة أخرى كانوا يرونها غريبة عنهم بحكم أن أول خيط الاستعمار الذي بدأ في 1980 لم يكن ليُرى حتى من قمّة جبل.
وبفعل المناخ الجيوسياسي السائد في المشرق العربي وقتها (دول عربية بامتياز بالنسبة للجزائري )، إذ إن نكسة 1967 وموت عبد الناصر وإنشاء دول الخليج وسوء الأحوال الاجتماعية العربية (عدا لبنان الذي كان يعرف وقتها بسويسرا الشرق) كلها كانت عوامل تبعث بشيء من التشتت وبرسالة ضمنية مفادها أن العربية ليست لغة العصر ولا التقدم. فزاد هذا من نفور الجزائريين من اللغة العربية ولم يستطيعوا تبنّي العربية الفصحى ونسيان الفرنسية رغم كل الجهود لطمسها وطمس اللغة الأمازيغية معها.
في فترة السبعينات والثمانينات، ظهر بأن الفرنسية ليست بلغة مستعمر فقط، إنما أصبحت جزء من هذا الشعبي الفتي، وقد تعدّى الأمر إلى الثقافة ونمط الحياة وكل شيء آخر تقريبا، وقد عاشت الجزائر بموجب ذلك تفتحا لم تعشه دولة عربية أخرى وأصبحت قبلة للأوروبيين حتى بداية التسعينات أين أرجعتها الحرب الأهلية قرنا من الزمان إلى الوراء.
وقد خلّفت الحرب الأهلية كثيرا في نفوس الجزائريين، فقد أتت "الجيا" الجماعة الإسلامية المسلحة بعكس كل ما كان يقوم به الجزائري، من نمط الحياة الأوروبي، إلى اللغة الفرنسية، وتغييره بنمط اسلامي متشدد وترهيب النفوس وإجبارهم على التحدث بالعربية بحكم أنها لغة الدين الإسلامي. وقد سبق ذلك أحداث 1980 المعروفة بأحداث الربيع الأسود والذي خلّف هوّة سحيقة بين الأمازيغ والعرب فتخلّى الأمازيغ منذ ذلك الوقت عن العربية كقبلة ثانية وتبنّوا الفرنسية كلغة أجنبية أولى وبعضهم تبنّاها على أنها لغته الأم بطريقة ما خاصة بعد أحداث "لعروش" 2001 التي أتت لتعمّق الهوة ثانية بين الأمازيغ والعرب في الجزائر.
والآن وفي التاريخ الحديث، صار الجزائري يتحدث لغة لا يستطيع أحد من العرب فهمها بسهولة، خاصة وأن 50 بالمائة من الكلمات تكون بالفرنسية، 45 بالمائة كلمات فرنسية محوّرة، وخمسة بالمئة عربية بلهجة محليّة. وفي إحدى القنوات، تمّ تحدي الناس في الشارع على قول جملة مفيدة بالعربية الفصحى فلم يستطع أي واحد منهم فعل ذلك دون صعوبة جمّة.
هل تعرفون نماذج أخرى كالنموذج الجزائري مع اللغة الفرنسيّة ؟
التعليقات