عرفت ممارسة الشعوذة منذ الأزل في جميع الشعوب والقبائل تقريبا حول العالم. ومع يأس الإنسان البسيط من فشل محاولاته المتكررة للظفر بشيء ما وصوم إلهه عن الإستجابة لصلواته، يلجأ إلى الشعوذة والدجل كخيار أخير، وفي أوقات أخرى كخيار أول.

كان الفراعنة القدماء يستخدمون الشعوذة وكذلك البابليون والسوماريون وغيرهم كثير، وقد استطاع الكهنة في جميع العصور خداع الناس بمعجزات زائفة بأن يستخدموا أبخرة فطريات سامة تسبب الهلوسة وتوهم الناس بأنهم يرون عجب العجاب، وكذلك تستخدم بعض المنظمات الدينيّة السريّة الحديثة بذور نبتة اللوتس لإحداث نفس الهلوسات والرؤى.

مع تطور التكنولوجيا ووعي الإنسان، أصبح الدجل والشعوذة من الأمور التي عفا عليها الزمن، ويمكن القول أن تلك الطرق القديمة المستخدمة أصبحت أحيانا أكثر تقدما، فبدلا من الفطر السام، يتمّ التحكم بعقول الملايين دفعة واحدة حول العالم باستخدام الفلورايد في الماء. "شعوذة حديثة". لكن وفي نفس الوقت الذي نرى فيه الشعوذة وقد اختفت من بلدان كثيرة، نجد هذه الظاهرة تنمو كطحالب الماء في المجتمعات العربيّة.

ليس وكأن العربي لا يدرك بأن الشعوذة ليست تعدو كونها دجلا، أو أنه أغبى من أن يدرك بأن الآخر يستخدمه في جني المال، لكن ومن المعروف أن المرء وعندما تنقطع به السبل يتمسك بقشّة صغيرة ولو كانت شعوذة هو يدرك بأنها دجل لا أكثر.

الظاهرة أصبحت تشكل خطرا على الأمن العام بعد أن اجتاز المشعوذون الخطوط الحمراء وباتوا يهددون حيوات أناس بأعينها مقابل المال. ويكون العربي البسيط في عين الهدف عندما يخلط بين الرقاة والمشعوذين، فيتم إيهامهم بأنهم يتعاملون مع راق في الوقت الذي هم يتعاملون فيه مع دجّال نشّال. وفي أحيان أخرى، يدرك العربي بأنه يتعامل مع مشعوذ يؤذي الناس، إلا أنه يحاول الكذب على نفسه ويقول بأن الرجل أمامه أو المرأة أمامه ليست سوى نسخة أخرى من القدّيسين القدماء الذين وهبهم الله الحكمة والرؤى وعلم الغيب والقدرة على شفاء المرضى كأي شامان أو ناسك أو شيخ.

يؤمن العربي في الوقت الحالي في زمن التكنولوجيا أن ممارسة الشعوذة هي أقصر طريق إلى المبتغى، في ظل ظروف اجتماعيّة متردية لا تسمح له بدفع تكاليف الأطباء، وكذلك يكون السبب نابع من خلفيّة شفافة عن كل ما قد يساعد على الإرتقاء بعقله وإخراجه من ظلمات العصور الوسطى، في ظل ظروف تمليها الحروب والمجاعات والنزاعات الطائفيّة والسياسيّة.

بطريقة أو بأخرى، يتجلّى قبول مثل هذه الممارسات المؤذية للناس في ذلك الكم الهائل من الكتب التي تصدر سنويا (روايات من الدرجة الثالثة) والتي تروي قصصا مستهلكة عن استعمال الدجل في تخريب الأسر والعقول وتناولها في قالب مرعب سيّئ التركيب وركيك التعبير، في تركيز منعدم على حلول تثقيفيّة لهذه الظاهرة التي يغذيّها الناس أكثر مما يفعل المشعوذون أنفسهم، فلا شعوذة من دون زبائن.

وفي الوقت الذي تعاقب فيه دول عربيّة ممارسي الشعوذة، لا يتطرق القانون المصري لا من قريب ولا من بعيد إلى الشعوذة ولا يوجد نص صريح وواضح حولها، وقد لوحظ ازدياد مرتادي الدجالين والنشّالين من المشعوذين مؤخرا بسبب جائحة كوفيد 19 وإيهام الناس بالطلاسم والأعشاب الشافية، حتى أن مقدار من الدجل تسرّب إلى القنوات وتجلّى في طرح خلطات غريبة من الأعشاب على الهواء مباشرة.

 تلقّت في عام 2021 قناة النهار الجزائرية إنذارا من سلطة ضبط السمعي البصري بأن تمّ إيقاف برنامج "ما وراء الجدران" ووجهت للقناة من خلال برنامجها ذاك تهمة "الترويج لبعض الأشخاص الممتهنين للدجل والشعوذة"، وهو ما لوحظ منذ سنوات ليس فقط في نفس البرنامج بل في عديد منها، أين يعلم القائمون أن استخدام الدجل والشعوذة كعنوان بارز لحلقات برامجهم التوّاقة إلى محتوى راقٍ، سيجلب المتابعين ويُحدث الضجّة، في طريقة مهلهلة من الترويج للشعوذة والسكوت عن إيجاد طرق ناجعة للقضاء على النشل والنصب الذي يمارسه ممتهنوه.

وهذا يساعد مباشرة في تشكيل حلقة أخرى من سلسلة طويلة من التخلّف الفكري لدي العربي وإبقائه في بؤرة ممارسة الشر عن طريق الدجل وإيذاء الناس في مفارقة صارخة تحكي كيف أن العربي الذي يهلّل باسم الإسلام ليحكم على آخرين مختلفين، أو على النساء أو على كل من لا يتقبّله أو يريد التحكم فيه، ويتناسى نفس الإسلام وهو يتوجّه نحو الشعوذة واستهلاكها.

يمكنكم التواصل مع الكاتب عبر رسائل الموقع الخاصة في أي وقت