ها قدْ جرَّني مجددًا.. هذا العالم الصغير الذي أُقابلهُ خلف منضدةِ الصَّرفِ في الصيدليةِ.

عالمٌ يبدوعاديًّا لمن يمرْ بهِ سريعًا

لكنَّه بالنسبة لي مسرح صامت تتخفَّى خلفه الحقيقة..العجز..التعب..والخوف.

حكاياتٌ كثيرةٌ مخبوءةٌ تحت عباءةِ الحياةِ،غير أنَّها ما إن تتسنَّى لها فرصةٌ صغيرة،شقٌّ ضيّق في الروتين،نَفَسُ استراحةٍ بين وصفةٍ وأخرى…حتى تنفلت.

هكذا حدثَ مساء هذا اليوم لم يكن شيئًا استثنائيًا في الظاهر؛رجلٌ يدخلُ طالبًا قياس الضغط

-و بعد أن التمسَ الإذن منَّا، مدَّ يده.في الخمسين من عمرهِ. أبٌّ وعاملٌ في وظيفةٍ مرموقةٍ وصاحبُ شهادة علمية كبيرة،يحملُ سنوات من العلمِ والتعلُّمِ.

بدأ يحكي

لم نكن نسأله،كان هو الذي يفتح نوافذ نفسه واحدةً تلو الأخرى.

لكن في بُرهةٍ من الزمنِ،قد تكوَّرَ كجَنينٍ تائهٍ..أسفرَت أخيرًا الحكاية عن معالمها،وبدأ بسردِ حكايته مع الخوف!

إذ تُباغتهُ نوبات ذعر، تُسهمُ في رفعِ ضغطهِ،فيضطرُّ جرَّاءها أن يقفَ للحظةِ، يلتقطُ أنفاسه، ويتناولُ ما تساقطَ من ثباتهِ.

قصة خوفٍ دامغٍ رغم العلم، رغم القوة الظاهرة، رغم كل ما يملكه.

يقولُ لنا بأنَّه رغم تكيّفه مع بعض المشكلات الصحية الأخرى التي يُعاني منها وتناوله للعديد من الأدوية.. إلا أن الأمر الوحيد الذي يُؤرقُ مضجعهِ هو: الخـــوف.

كنت أراقبه، أُصغي إليه. وأرى من خلالهِ شيء يشبُهني

ويشبهُ كل إنسان يحمل أدوارهِ على ظهرهِ، ويتلصصُ على لحظةِ صدقٍ واحدةٍ ليكشفَ بها عمّا يتعبهُ.

الخوف لم تكن مسألة لحظية.. إلّا أن ظلالها امتدَّت في حياتهِ نحو كل شيء. الخوف من الأدوية، من الأعراض الجانبية، من أن يخطِئَ الجهاز، من الاحتمالات. من وسعِ الاحتمالات.

وأخيرًا الخوف من الخوفِ.

يا لها من معضلةِ!

أن يتحركَ الخوفَ بداخلنا كظلٍّ رشيقٍ لا نفلحُ بالإمساك به.

وأن تُقهَر جميعُ الألقابِ والصفاتِ في حضرتهِ

وتبقى صفتنا الحقيقية:"إنسان".

بعد سردٍ طويلٍ تنقَّلنا بها بين دفتيّ حياته،

صبحه مع عمله حتى لحظة المساء.

يأتي ذلك السؤال كحبلٍ أخيرٍ يربطُ بينهُ وبين أمنيتهِ في الخلاص.

- "شو الحل" ؟

تنهَّدَ كل من بالصيدلية حتى إني أُجزم أن رفوف الأدوية تنهَّدت هي الأخرى.

أجمعنا بصوتٍ واحدٍ:

-"واجهْ خوفك"

هزَّ رأسه، لكنه بدا وكأنَّ أحدا حكى له كلمة من لغةٍ لا يعرفها.

عاد يسأل:

- " كيف؟ "

سؤالٌ بسيطٌ تُختزلُ فيه حياة كاملة من التردد

والرّيبة.

تذكرتُ حينها قصة سيدنا موسى عليه السلام،

أكثر نبي كانت حياته محفوفة بالخوفِ..كأنَّ الخوف كان جزءًا من امتحانهِ.ومع ذلك كان النداء السماويّ يطمئنهُ:

﴿يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ﴾

لا تخفْ أمر فاصل ومُباشر!

ولو انقطعت جميع الأسباب:

يبقى لكَ السبب الأكبر:

أن الله معك حيثما تكون.

ولو نطقَ الرعب من حولك صائحًا:

﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾

سيُغشى ثعبانُ خوفكَ أرضًا،

وسـترى بعينك أنّ هزيمته ليست في الهرب منه،

بل في أن تمشي نحوه…وتُمدّ إليه يديك.

وقتها ستنامُ العاصفة في قلبك

وتخرجُ منه كلمة لا تقال إلا حين يثبت اليقين.

﴿ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾