الكونُ يجيب

حينما يتحاذقُ الكونُ عليّ بإشاراتهِ، أكونُ قد استفطنتها ، قبل أن يُكملَ استرسالها، و قبل أن يهمس لي، يتجلَّى صدى المعنى أمامي بوضوح.

 القلوب المتيَقِظة والأرواح الحائرة فقط من تلتقطْ العِبرة، فالإشارات الكونيَّة ليست محض صدفة (بالرغمِ من إختلاف عائلتي وأصدقائي معي في فهمِ هذه العادة)

لكن دائمًا حين يغيبُ أثر كلامي،أكتشفُ أثرًا أعمق،وهو أثرُ الكونِ الذي يوجّههُ الله بعظمتهِ إلى قلبي.

في ذلك اليوم، كنتُ أحمل في صدري سؤالًا ثقيلًا، كأنَّما الكون بأسره قد علِقَ بين شفتَيّ، كنتُ شاردةً في مأتمي،والسيارة تخضُّني، وجسدي بليلٌ يهتزُّ معها بلا إحساس، منْ يراني بهذا الوضع، يعتقدُ أنه وصلني للتوْ خبر وفاة ، صمَّاءٌ من المشاعر، والشُّرود هو سيّد المشهد.

تمتمتُ في سكونٍ : "اللهم إني عبدك وابن عبدك.." ، كنتُ ألوذُ من أصوات عقلي بالدعاءِ، الدعاء هو الصوت الوحيد الذي يجبُ أن يظلَّ إيقاعه عالٍ حينما تكون على تلةِ اليأسِ.

و بينما كنت أفرُّ من حيرتي، رفعت رأسي للسماءِ، كما لو أنني أبحث عن جواب هناك.

كانت الغيوم مُبعثرة، تمامًا مثل مشاعري ،لكن فجأة، وقع نظري على صفحةٍ من إتقانٍ يعجزُ عن خلقهِ الحصيفُ والخبير: صورة لجَمَلٍ مستكينٍ على ركبتيهِ، يتهادى على سجادة السماء.

لم أصدق عينيّ، و ظللتُ أحدّقُ به، ثم ناديتُ عائلتي ليروا ما رأيتْ، وبعد أن زخرنا على هذا المشهدِ بالتسبيحِ، عدتُ لملكوتِ أفكاري مجددًا: أهذا مجرد شكل عابر صنعتهُ الرياح؟ أم أن هناك رسالة تتوارى خلفَ هذا الجَمَال؟ 

شعرت وكأن الكون يريد أن يقول لي شيئًا، وكأن الجَمل يحملُ رسالةً خفيةً تتسحَّبُ إلى قلبي، دون أن أفهمها تمامًا.

وفي غُمرةِ تأملي، ظهرَ باصٌ كبيرٌ محمَّل بالجِمَال على ظهرهِ، قطعتُ حبل أفكاري بجملةٍ واحدةٍ : "رنيم، مجرَّد صدفة يا عزيزتي، ركّزي على اللحظة الآن واستمتعي."

في طريقِ العودة، كان قد حلَّ المَسَاء و الظلام بدأَ يلفُّ السَمَاء، بينما كانت الغيوم لا تزال مرئيَّة، و كصدى بعيدٍ أسمعهُ جيدًا، و لكنني لا أجدُ السبيل للوصولِ إليهِ، رفعتُ عيني للسماء، ورفعَ الله بها عني حِجاب السُّؤال؛ ليكشفَ لي ما كانَ خفيًّا عن عيني.

هذه المرة رأيتُ نفس الجَمَل، بنفسِ الهيئة، لكن هذه المرة في خيالاتِ الليل؛ كأنَّ الكونُ يُصرُّ على أن أراهُ مرتين: مرة في الواقع ومرة على الغيوم.

هنا تيَقنتُ أن ما رأيته لم يكن (مجرد صدفة)، بل إشارة لي،و تذكرة بأن الإجابات لا تأتي دائمًا بصوت عالٍ أو بلغة مفهومة. ربما الجمل كان رمزًا للصبر، أو ربما للسفر الداخلي في مساحات الذات.

رأيتُ كيف السماء حين تتحدث تُعجِز فصاحة البليغ والطَّليق، وكيف يمسحُ الله بلطفهِ على قلبٍ غريق، ويجعل لهُ من وجهِ السماء، ألسنةً تكلِّمه فيها ،و تُهوّن عليهِ مشاق الطريقْ.

الآن، كلما ضاقت أفكاري، أبحث عن الغيوم، لا لأنها تحملُ الإجابة، بل لأنها تذكّرني أن الإجابات لا تكون دائمًا واضحة، لكنها دائمًا موجودة لمن يبحثُ بصدق.

فماذا عنك؟ هل شعرت يومًا أن الكونَ حولك يُخاطبك بلغةٍ لا يفهمها سواك؟ ويقدمُ لك تعازيهِ بطريقتهِ الخاصّة؛ ليربّتَ على كتفيكَ، ويُضمِد قلبك؟