خلال فترة تدريبي في إحدى الصيدليات، دخل رجل في أواخر الثلاثينات، وجهه مشبع بتجاعيدِ الزمن، كانت ملابسه البسيطة تنبئُ بحياةٍ يوميةٍ تطاردُها هموم لا تنتهي، لكن، على الرغم من كل ذلك، كانت هناك ابتسامة خافتة لكنَّها دافئة، تضيءُ وجهه.
تقدَّم نحونا، أنا والدكتورة المناوبة في ذلك اليوم
وقال بصوتٍ مهذبٍ: (السلام عليكم، بدي أوتريفين وبروسبان وزيرتك) وهي أدوية خاصة بالزكامِ والسُّعال.
بدأتُ بتجهيز الأدوية التي طلبها دون الحاجة لوصفة؛ كان من الواضح أنه يعرف جيدًا ما يحتاج إليه، ربما بحكمِ خبرته مع هذه الأدوية من قبل. وضعت العبوات على الطاولة، وأخبرَتهُ الدكتورة بالمبلغِ المطلوبِ.
هنا، وفي هذه اللَّحظة نعثنا قيامتهِ و أيقظنا جراحهِ و كشفنا الحجاب عن قهرهِ الذي لو كان هيّنًا لما استعاذَ منه النبي عليهِ أفضل الصلاة والسَّلام.
تبدَّلتْ ملامحهِ في ومضةٍ، كما يأسنُ الماء ويخبو الضياء و ينثرُ حطامهِ كالهَباء، أطرقَ برأسهِ للحظةٍ، وكأنَّه يحاول أن يرتدي لثامَ الكبرياءِ و خلفهِ تنتحرُ معاني الإستياء.
كل شيء في داخلهِ تجمّد ، وبين لحظة الفهم والذهول فاصلاً طويلّا من معاناةٍ يعلمُ بها الله.
قال: "آه... تذكرت! أظن أن لدي بعضًا من هذه الأدوية في البيت. سأكتفي بهذا فقط." وأشار إلى أحدِ الأدوية الأقل تكلفة!!
التقط الدواء وكأنما يلتقطُ ما تبقَّى من كبريائهِ، ودفع ثمنه بسرعة كمن لا يريدُ التورّط في خيبةٍ معلنةٍ، غادرَ وهو يرددُ شكرًا بهدوءٍ يصرخُ بالأنفةِ.
بقيتُ أراقبه وهو يغادر الصيدلية وهذه عادتي التي أجدُ فيها إنسانيتي، مُراقبة المشهد، والتفرُّس بوجوه أصحابهِ.
لم يكن المشهد مجرَّد أب يشتري دواءً، بل كان انعكاسًا لمعاناةٍ يعيشها بصمت مريرٍ. كان يحاولُ التوفيق بين ما يحتاجهُ أطفاله وما تسمح به جيوبه الخاوية، دون أن يكون له الحقّ في الإعترافِ بذلك.
أدركتُ أن هناك أشخاصا مثله كُثر، يتجنَّبون طلب المساعدة خوفًا من الوقوعِ في فوهةِ الشفقةِ، ويختارون الصمت حفاظًا على كرامتهم. تمنيتُ لو كانت هناك طريقة تجعلني أقول له إنّني أفهمه، وأنه ليس وحده في هذا العالم القاسي لكن كلماتي تاهت في زحامِ اللحظةِ.
لم أستطيع أن أكون أكثر من شاهدٍ، أو ربما حتى الشاهد الذي لا يمكنه أن يغيّر شيئًا، وكأننا جميعًا في هذا المسرح الكبير، نلعب أدوارنا بلا جدوى من إبداءِ التعليقِ.
التعليقات