الرابط العجيب

"إنتو مسّقَفين؟"

لأسباب نمطية بحتة رُبطت القهوة بالثقافة والكتب، أنا حقاً لا أعلم ما مشكلة التعمق في الأخوة كارمازوف بينما تتناول العصيدة مثلاً!

أحياناً كثيرة لا أفهم هذا العالم...

في القرن السادس عشر وبينما أنت تجلس في مقهى في وسط القاهرة أو مكة أو حتى دمشق تستمتع بشرابك الترابي المّر ذو الرائحة العبقة، أنت تخاطر بالاشتباه بفعل معصية.

كنت أود لو أمزح، لكن عصر المماليك لم يكن أفضل وقت لمحبي الكافيين.

إليك المرسوم التالي:

"ما رأيكم في مشروب يقال له القهوة، مشاع شربه بمكة المشرفة وغيرها، هل يحّل شربه أم يحرم مطلقاً لكونه مسكراً ومضراً بالأبدان؟

توقيع: خاير بك ناظر الحسبة في مكة المكرمة"

أراك تحقد على خاير بك أليس كذلك؟ حسناً إنه عمله لذا لا تلمه، فقد كان يشغل منصباً يمكن تفسيره بأنه "موظف الدولة لمراقبة الأخلاق العامة"

نعم أعلم، وفر تهكمك أيها المتحذلق وإياك والمقارنة بين ذلك الزمان وهذا.

عموماً وصل ذلك المرسوم للسلطان المملوكي قانصوه الغوري، الذي عرف المخاطرة في إجازة أو تحريم القهوة لذا أتخذ موقفاً محايداً وسيكون هذا الموقف أحد أسباب فناءه

تخيل أن تموت من أجل القهوة؟!

في العام ١٥١٦م وفي مرج دابق شمال دمشق يتقابل جيشان مهيبان، جيش المماليك في جانب، وعلى الجانب الآخر ترى الجنود العثمانيين يسدون الأفق، معركة توسعية لا دخل للدين بها فالطرفان مسلمان.

يقود السلطان المملوكي مقدمة الجيش وعلى الميمنة حاكم دمشق، والميسرة من نصيب صاحبنا خاير بك.

تبدأ المعركة حامية الوطيس وتنحاز الكفة للمماليك، لكن وبينما تدور الرحى يصدح صوت خاير بك يخبر الجنود أن السلطان يأمر بالتوقف عن القتال فيتحول الجنود من الكّر إلى الفّر بتلك البساطة وفي وسط تلك المعمعة يموت السلطان المملوكي.

لم يُعرف كيف مات أو حتى أين جثمانه، درس قيّم لمعارضي كارهه القهوة إن سألتموني.

وفي العام ١٥١٧ تسقط القاهرة في أيدي العثمانيين وتنتهي المملوكية، ويعين أحدهم حاكماً للقاهرة.

نعم بالضبط عدو الكافيين

في النهاية لم تُحرم القهوة لأنها شراب ارتبط بالممارسات الدينية الصوفية، حيث أن سهرات المديح والذكر يلزمها شراب يعين على اليقظة ولا خير من القهوة لهذا المنصب.

لكن، من اكتشف القهوة أساساً؟

كان بودي تجميل الحقيقة لك، لكن أصحاب الفضل هم مجموعة من الأغنام.

تحكي القصة أن راعياً حبشياً بسيطاً نادى يوماً على أغنامه فلم تجبه مما ادخل الرعب لقلبه فذهب باحثاً عنها ليجدها تأكل من كرز أحمر غريب الرائحة، وكما يفعل أي شخص عاقل فقد تناول هو القليل وذهل لكمية النشاط التي سرت في جسده ليذهب بالكرز الغريب لحاكم المدينة الذي وبشكل ما اهتدى لنقع الثمار الصغيرة وشربها، وها أنت ذا تعرف الحكاية.

وبهذا انتقلت القهوة من الحبشة إلى اليمن ومنها إلى العالم.

حالما وصلت القهوة لأوروبا حُوربت بصفتها شراباً "مسلماً" يهدد العقائد المسيحية!

ستسعدني معرفة تعابير وجه مؤسس ستاربكس عندما عرف.

في النهاية الغلبة كانت للجماهير المحبة للشراب الأسود وانتشرت المقاهي في لندن انتشار النار في الهشيم.

تنوعت المقاهي فمنها ما كان يعتبر جامعة مصغرة يدخل إليها عالم أحياء ليشرّح فيها حيواناً مائياً وجده بينما يخبر الحاضرين عن ندرته، أو ربما أماكن تجمع تولد منها الثورات الجوهرية كالثورة الاقتصادية الأوروبية، أو ببساطة مكاناً هادئاً تزوره بعد يوم متعب لينفض عنك أثقاله.

تعدت القهوة كونها شراباً لتصير حالة اجتماعية وأساساً للقاءات فأي جلسة دون بُن يمني غامق، أو دَلة وعبق زكي لأخرى عربية بالحليب، أو ربما لبيضانية مع المكسرات التي تذكرك أن النهايات قد تكون سعيدة!

والسر ليس في الشراب، بل في التجمعات، لا أدري من قال إنها للعزلة والسكون، لطالما كانت سبباً للقاء وتبادل الأحاديث والتعمق فيها حتى ننسى الزمان والمكان، لطالما كانت تذكرة لكل بقعة ونافذة على كل عجائب الدنيا وحباً صادقاً نقياً للحياة.

ما رأيك؟ قهوة؟!