اختنقت كلمات فاوست بدموعه، كانت هذه الأخيرة في عينيه وصوته، وهو يقول آخر ما لديه للإله.

 " يا ربي، أرجعني أصنع صالحا وأذر طالحا، لا أريد أن تكون حياتي طويلة، أريدها عميقة، أن أمرّ أنا بالأيام، لا أن تمرّ بي ".

ركد حسّ أجنحة الملائكة، توقف تنفس الأنبياء والمرسلين والعباد، خمد زفير جهنّم لبرهة، وبأمر من الإله، أطلقت الجنّة ريحا لذيذا عصف بالمكان.

كانت الرياح بين الدافئة والباردة، ذات رائحة وطعم كالطيب، بدأت تحوم حول فاوست ثم شرعت تعصف به برفق !،فلم يعد يقوى على إبعاد جفنيه أو على رفع رأسه خشية مما قد يراه.

وفجأة.

أحس بأن المكان صار غير المكان، أن خطبا ما قد تمّ حواليه، هل قام الإله برميه في الجحيم؟،لا، هو لم يكن يشعر بأي ألم، إذن، هل وثب نحو الفردوس؟، ربما، لكن نفسه ليست مطمئنة كنفوس أولئك الذين رآهم يدلفونها من قبله، أين هو إذن ؟.

استجمع فاوست شجاعته وفتح عينيه اللتان أحس بأنهما منتفختان وواهنتان أكثر مما مضى.

خراب ودمار ونهاية في كل مكان من حوله، عشب ونار وسماء وشجر بلا طير ساكن، صمت مطبق ومكان مألوف وحيد.

التفت حول نفسه ثلاث مرات، قبل أن يتسع ثغره، وتبكي عينه، ويفرد يديه وينظر للسماء صارخا بأقصى ما أوتي من صوت.

" لقد عدتُ للأرض، لقد حصلتُ على فرصة ثانية، أنا يوهان جورج فاوست، حصلتُ على فرصة ثانية من الإله !".

لم استطع يوما أن اخفي التميز الذي حاز عليه هذا الكتاب في قلبي، فبعد سنين طويلة من كتابة روايات من مختلف الألوان لم أبغى مطلقا كتابة أي شيء فلسفي رغم تأثري العميق وقتها ( في 2017) ببندول فوكو واسم الوردة لحبيبي أمبرتو إيكو، كنت دائما ما أجد صعوبة في الإبقاء على نفس المعنى الدقيق الذي تحوز عليه الكلمات وهي لا تزال في عقلي وليس على ورقة حينما يتعلق الأمر بالفلسفة والمفاهيم الباطنية. بيد أن الأمر برمته كان سلسا ولم أعي حتى وجدت نفسي أشرع في هذا العمل الذي لم أتأخر كثيرا عليه، فلقد أخذ مني ثلاثة أشهر لا غير لأنهيه، ثم ابتعدت مسافة عنه ورحتُ أنظر إليه بعين من الريبة وأقول " هل أنا مقتنع ومسؤول عمّا كتبته ؟" ظل هذا السؤال في عقلي كثيرا. وقد تعرّض الكتاب إلى التغيير في كثير من المناسبات، وفي كل مرّة ينقلب فيها قمر قناعاتي تنقلب معه حروف وأفكار في كل مكان من أركان الكتاب حتى وصل إلى قمة النضج الفكري (حسبي) في حدود عام 2021، وقد ظل حبيسا وقتها ومن حينها إلى أن دقت ساعته مؤخرا.

أتمنى أن يجد القارئ التميز الذي رأيته شخصيا في هذا الكتاب الذي جعلني أعنون هذا المقال وأقول بأنه هو من ولدني، فحينما كتبته، حاوت قدر المستطاع أن أكون على سجيّتي وأن لا أنتقي الأفكار والكلمات، إنما أرمي بها كالزجاج المصهور بين يدي وأجعله يتبلور لاحقا على هذه الشاكلة التي سترونها عليه الآن. وحينما انتهيت منه، رأيت بنات أفكاري كالجبل المنحوت أمامي، مجموعة وكمّا هائلا من القناعات والأفكار التي كانت في عقلي قديمة قدم وجودي حتى أحسست أنها كانت قبلي. فبطريقة ما أحسست بها كالوالد الذي بان قدّامي أخيرا وهو يقول لي مبتسما

"مرحبا !" .