بينما تحمست لقراءة كتاب (أبي الذي أكره) الذي كتبه الطبيب النفسي عماد رشاد عثمان؛ لما يُناقشه من قضايا نفسية متعلقة بإساءات الطفولة وآثارها صدمتني عبارة «لا ينصح بقراءة الكتاب إلا تحت إشراف متخصص نفسي»، والتي خطها آلاف الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي، وعللوا قولهم بأن الكتاب سيكون صادم بشدة لمن عاش هذه الأمور، ولم يتعافى منها بعد.  لم أعبء صراحة بكل هذه التحذيرات وقررت خوض المغامرة ...

السجن ...

إنها البداية، حيث بدأ الكاتب حديثه بسرد 9 سيناريوهات أو دعنا نقل قصص لأشخاص تعرضوا لإساءات مختلفة في طفولتهم، فيسرد كل منهم ألمه بدقة وحزن دفين، تقرأ فتشعر كأنك أنت من عشت هذه الأمور، لقد كان الوصف دقيقًا جليًا بصورة أكبر من اللازم ... ولكن في نفس الوقت اللغة وإن كانت قوية وجزلة إلا إنها عصية الفهم على كافة القراء. أقصد هنا القارئ المبتدأ، أو غير الملم بحصيلة لغوية قوية وجزلة، وهذا نوعًا ما يخلق حاجز بين الكاتب والقارئ، وربما يتسبب في عدم فهم القارئ لما يقصده الكاتب، أو لا تصل إليه رسالة الكاتب بشكل واضح دون لبس أو تخبط ...

التكوين ...

من هنا، وعلى مدار مئة وثلاثة وأربعين صفحة بدأ الكاتب في سرد شكل الإساءات التي تُمارس على الصغار، وما يترتب عليها من آثار ... سرد مؤلم بشدة، يحمل بين طياته الكثيرة من التفاصيل الدقيقة الكفيلة بجعل القارئ الغير متزن نفسيًا ينهار على الفور ... وهذا ينبهنا للمرة الثانية إلى أن الكتاب غير مناسب تمامًا قراءته دون إشراف من متخصص ... 

في هذا الجزء تحديدًا أصبحت اللغة أقوى، وكذلك الأسلوب، مضافًا إليهما التصويرات والتشبيهات البليغة البارعة ولكن ... إن كانت في كتاب آخر غير هذا، أو بمعنى آخر إن كانت في نوعٍ آخر من الكتب خلاف الكتب النفسية ... ما رأيك في هذا الرأي؟ هل تتفق معه أم لك وجهة نظر أخرى؟ 

قد يقول أحدهم، لماذ هذا الكلام؟ ألسنا من نردد ليل نهار أن الكاتب لا بد أن يتمتع بلغة سليمة قوية وأسلوب سلس جزل، ويبتعد عن الركاكة والسفه في كلماته؟ لماذا الآن نتراجع عن ما قلناه سابقًا؟!.

حسنًا إن الإنسان المشوه نفسيًا، أو الذي تعرض لإساءات لا حصر لها في طفولته يكون غاية في الإرهاق، والتعب الذهني الشديد، وإن لم يظهر عليه هذا. تعبٌ يجعل من الصعوبة عليه فهم مثل هذه اللغة القوية والتشبيهات البليغة في وقت استُثيرت فيه مشاعره وذكرياته الأليمة لهذه الدرجة ... قد يكون قارئًا لأعظم الكتب في العالم، قد يكون طليق اللسان، بليغ الحديث، شاعر عظيم ... الخ، ولكن عندما يأتي الأمر عند آلامه النفسية يفقد كل هذا في غمضة عين ... 

إن من يقرأ هذا الكتاب لا يبحث عن أسلوب بليغ، ولا عن لغة لا مثيل لها، وإنما يبحث عن نفسه البسيطة بين السطور وفقط. 

التعافي

وأخيرًا بدأ طريق التعافي ... والذي للأسف جاء مخيبًا للآمال على عكس ما سبقه؛ حيث أكمل الكاتب في وصف الآلام النفسية وإن تخللها بعض السطور عن طرق للتعافي، والتي أراها جميعًا سطحية أو غير مجدية، لقد كانت أشبه بشخص تحكي له عن ما عانيته من أهوال ومصائب وما خسرته على طول الرحلة، وكيف وصل الأمر إلى شفا حفرة من الموت، وهو يستمع إليك بنصف عقل ثم يرد عليك في الأخير بعد انتهائك من الحديث بكلمة معلش ... 

أضف إلى هذا أن هناك بعض الطرق العلاجية التي ذكرها الكاتب والتي خلقت عندي علامة استفهام حول جدواها من الأساس، كحديثه عن البوح عن كل ما عشناه من الآلام بكل صراحة ووضوح، ماذا عن الذنوب التي وقعنا فيها؟ هل يجوز أن نصرح بها هكذا بكل بساطة؟ ألن تصيبنا صدمة التعري أمام شخص ما والظهور أمامه بكل هذه الآثام؟ حقيقة لا أشعر بأن هذا أمر صائب، ولكني لم أستطع الوقوف على حقيقة الأمر وصحته بعد ... ما رأيك أنت هل البوح أمر مجدي حقًا ويساعد على التعافي؟ أم يؤدي إلى تفاقم الأمور؟

في النهاية الكتاب كان نقلة نوعية لي فيما يتعلق بالأمور النفسية، وإن كنت اتفق مع كل شخص صرح بأن قراءته دون إشراف مختص نفسي أمر غاية في الخطورة ... ورغم هذا فأنا أرى بأنه لم يُضِف شيئًا للوعي الجمعي سوى وصف آلام كل من تعرض لإساءة ما في طفولته، واثبات أنهم حقًا يتألمون ... وربما هذا يعود بالنفع عليهم في جعلهم يشعرون بأن ما عاشوه لم يكن شيئًا عاديًا وأن ألمهم هو أمر طبيعي جدًا ...