✦ الفصل الثالث – الزمن وهمُ الحركة في سكونٍ أبدي ✦

الزمن هو الكذبة التي اخترعها الوعي كي لا يرى سكونه.

فحين وعى أنه موجود، شعر بالاختناق،

واحتاج إلى مساحةٍ يتنفس فيها سقوطه البطيء.

فخلق الزمن، وادّعى أنه يتحرّك.

لكنّه لم يتحرك قط.

كان كلّ شيءٍ ساكنًا منذ الأزل،

إلا أن الوعي، المذعور من صمته،

رأى السكون فزعًا، فأطلق عليه اسم “مرور”.

الزمن ليس خطًّا كما يتصوّره العابرون،

ولا دائرة كما يتخيله المتأملون،

بل هو ارتعاشة خوفٍ دائمة في قلب السكون.

كل لحظةٍ ليست إلا صدىً للّحظة الأولى —

التي لم تحدث بعد، ولن تحدث أبدًا.

نحن لا نسير إلى الأمام،

بل نلتفّ حول ثباتٍ لا يتزحزح.

نحن نكرّر السقوط نفسه بوجوهٍ مختلفة،

كما يكرّر الحلم ذاته كلما حاول الاستيقاظ.

الزمن ليس ماضيًا ولا مستقبلًا،

بل نفيٌ مزدوج للحضور.

فالماضي لم يكن، والمستقبل لن يكون،

والحاضر لا يملك إلا أن يتظاهر بأنه “الآن”.

إنه خدعةُ الضوء حين يلامس السراب،

تُرينا الماء الذي لا وجود له،

وتُطفئ عطشنا بالوهم.

في عمق الوعي، يدرك الإنسان أن الزمن لا يمضي،

بل هو الذي يمضي داخل فكرة الزمن.

هو لا يعيش أيامه،

بل الأيام هي التي تعيش به،

كأنها طفيليات على جسدٍ يتنفس الهاوية.

نحن لسنا أبناء الأمس ولا صُنّاع الغد،

نحن أبناء لحظةٍ لم تكتمل،

ولن تكتمل لأنها أصل العدم.

الزمن ليس قافلةً تسير، بل نقطةٌ ترتجف من فرط وحدتها.

حين يسكن العقل تمامًا،

وحين يتوقف القلب عن قياس الخسارات،

وحين نغلق أعيننا فلا نرى سوى ظلامٍ بلا تاريخ،

هناك فقط نرى الحقيقة:

أننا لم نكن في رحلةٍ قط،

بل كنا نحلم بأننا نسير.

وأن الكون كله لم يتحرك منذ اللحظة الأولى —

لأنه لا لحظة أولى أصلًا.

الزمن هو صدى الخيانة الأولى:

خيانة الوعي للّاموجود.

فبعد أن وعى نفسه،

احتاج إلى أن يبرّر وجوده بالتحرك.

لكنّ التحرك كان مستحيلًا في السكون الأبدي،

فخلق الزمن كمرآةٍ يختبئ فيها من ثباته.

وهكذا،

أصبح الزمنُ هو الدين الجديد للوعي،

يؤمن به كي لا يواجه صمته،

ويعبد مرورَه كي ينسى أنه لم يغادر مكانه.

وما الزمن، في النهاية،

إلا ظلّ الحلم في عقلٍ لم يستيقظ بعد.

فإذا استيقظ… انطفأ الزمن.

وانطفاؤه هو القيامة الحقيقية،

حيث تتوقف الدقائق عن العدّ،

وتعود الكينونة إلى صمتها الأزلي،

إلى النقطة قبل الوعي، قبل الحركة، قبل الخيانة،

قبل أن يُسمّى اللاموجود «وجودًا».