يقاس تحضر أي شعب لا بعدد ناطحاته ولا بثراء أرضه ولا بارتفاع شعاراته، بل بقدرته على أن يميل إلى السلام بدل الحرب، إلى النزاهة بدل الفساد، إلى التعايش بدل التشظي، إلى الإنسانية بدل الطائفية، إلى البناء بدل الخراب.
الشعب المتحضر هو الذي يفهم أن السلم ليس ضعفا بل أساس القوة، وأن النزاهة ليست زينة بل ضرورة للحكم، وأن المواطنة ليست خيارا بل قدر لا بد منه. أما الشعب الذي يتغنى بالقوة وهو ينهش بعضه بعضا، ويصرخ بالوطنية وهو يذبح الوطن باسم الطائفة أو العشيرة أو القبيلة، فهو شعب لم يزل في مرحلة الطفولة السياسية، لم يعرف أن المدنية لا تقاس بالصوت العالي بل بالنظام العادل، ولا بالتهديد والوعيد بل بالقدرة على التعايش
جوهر التخلف
المجتمعات المتأخرة لا تفتقر إلى الثروات ولا إلى العقول، بل إلى العقل الجمعي الذي ينظم هذه الطاقات. هي مجتمعات تكثر فيها أمراض الغرور والتبجح والنرجسية الطائفية، يتحدث أبناؤها عن العزة والكرامة وهم غارقون في التبعية، يتفاخرون بالسلاح كأنه مقياس للرجولة، بينما هو في الحقيقة أداة لإدامة الفوضى، يستبدلون القانون بالعشيرة، ويستبدلون الدولة بالطائفة، فإذا جاء ذكر الحرية عدّوها مؤامرة، وإذا ذكر العدل اعتبروه تهديدا لامتيازاتهم، وإذا قيل لهم المواطنة ظنوها ضعفا أمام خصومهم. وهنا تكمن المأساة: إذ يصبح الفساد عرفا متقبلا، والعنف بطولة اجتماعية، والاستبداد قانونا غير مكتوب، كأن المجتمع كله اتفق على أن يبقى سجينا في قفص الماضي!!
طريق الخلاص
الخلاص لن يأتي بشعارات جديدة ولا بخطابات حماسية، بل بوعي يرفض أمراض العنتريات الفارغة، وبشعوب تدرك أن السلام قداسة لا مهانة، وأن التعايش مصير لا ترف، وأن المواطنة عقد لا بديل له. حين تصل المجتمعات إلى هذه القناعة يسقط أمراء الحروب الذين يتاجرون بدماء الناس، وينكشف تجار الكراهية الذين يعتاشون على تمزيق المجتمع، وتُفقد هيبة السلاح أمام هيبة القانون. عندها فقط يمكن القول إن التحضر بدأ يتسرب إلى الروح العامة. عندها يصبح الكتاب أثمن من البندقية، والمدرسة أقدس من العشيرة، والمواطنة أوسع من الطائفة. هذه هي البداية الحقيقية، أما ما عداها فمجرد دوران في حلقة مفرغة
التعليقات