الإنسان ليس المعيار: نقد المركزية البشرية وإعادة تأسيس الحق
هذه ليست ملاحظة عاطفية أو فكرية عابرة، بل هي خلاصة تتبّع حاد لحقيقة أن الإنسان — مهما تغيّرت أشكاله ولغاته وأحلامه — يعود دائماً إلى أنماطه الأولى يعيد اختراع الخطأ ويجمله، ثم يعود ليكتشفه كأنه يراه للمرة الأولى. إن تاريخ البشرية ليس قصة تقدم خطي نحو الكمال، بل هو نمط متكرر من الصراع بين الحقيقة والوهم، بين النور والظلام، وهذا الصراع منسوج فينا منذ لحظة الخلق الأولى.
الفصل الأول: كذبة "الإنسان هو المقياس"
إن أكبر مغالطة فلسفية تبنتها الحداثة الغربية، والتي تسربت إلى كل جوانب حياتنا، هي المقولة المنسوبة إلى بروتاغوراس: "الإنسان هو مقياس كل شيء". هذه الفكرة جعلت من الذات الإنسانية المتقلبة والناقصة مركز الكون ومصدر الحقيقة الوحيد. لكن التاريخ والفلسفة يصرخان بأن هذا وهم خطير.
الدليل الفلسفي: أفلاطون ضد السفسطائيين
قبل آلاف السنين، خاض أفلاطون معركة فكرية حاسمة ضد هذا الفكر. بالنسبة لأفلاطون، المعيار ليس الإنسان، بل هو عالم "المُثُل" (Forms)، وعلى رأسها "مثال الخير" أو "الحق". هذه المُثُل هي حقائق موضوعية، ثابتة، ومطلقة، لا تتغير بتغير أهوائنا. الإنسان لا يخترع الحقيقة، بل يكتشفها. مهمته ليست أن يكون هو المقياس، بل أن يوفق روحه وسلوكه مع هذا النظام الأخلاقي الكوني. عندما يصبح الإنسان هو المقياس، تنهار الحقيقة وتتحول إلى مجرد رأي شخصي، وهذا هو جوهر الفوضى.
ما هو "الصحيح"؟
"الصحيح" ليس ما نتفق عليه، أو ما نشعر به، أو ما تمليه علينا مصالحنا. الصحيح هو ما يتوافق مع هذا "الحق" المتعالي. إنه المبدأ الثابت الذي لا يتأثر بالزمان أو المكان. هو البوصلة التي يجب أن توجه كل أفعالنا. وبالتالي، الإنسان ليس هو المركز، بل هو كائن كُرِّم بالقدرة على السعي نحو هذا المركز، وهو "أثر من المقدس"، لا المقدس نفسه.
الدليل الواقعي: الإنسان ليس مثالياً
لو كان الإنسان مثالياً أو كاملاً، لما احتاج إلى قوانين أو محاكم أو حتى دين تاريخ البشرية هو أكبر دليل على نقصه: حروب، مجازر، ظلم، استغلال، وتدمير للبيئة. إن ما يحدث اليوم في فلسطين، حيث يُقتل عشرات الآلاف من الأبرياء على مرأى ومسمع العالم، هو البرهان الدامغ على فشل الأخلاق البشرية عندما تُترك لأهواء القوة والمصلحة. لو كان الإنسان هو المعيار، لكانت "حقوق الإنسان" كافية، لكنها أثبتت أنها حبر على ورق حين تتعارض مع رغبات الأقوياء. هذا يثبت أن الإنسان ليس مثالياً، بل هو كائن يحمل في داخله "شراً جذرياً"، كما وصفه الفيلسوف إيمانويل كانط، أي ميل طبيعي لتقديم حب الذات على القانون الأخلاقي.
الفصل الثاني: هاوية نيتشه والتعالي الأجوف
جاء فريدريك نيتشه ليعلن "موت الإله"، ويقدم بديلاً هو "الإنسان الأعلى" (Übermensch). لكن هذا الإعلان لم يكن تحريراً للإنسان، بل كان دفعه نحو الهاوية.
الدليل الفلسفي: دوستويفسكي ضد نيتشه
قبل أن يكتب نيتشه عن موت الإله، كان فيودور دوستويفسكي قد استكشف بالفعل النتائج المروعة لهذه الفكرة في رواياته. في "الإخوة كارامازوف"، تطرح شخصية إيفان كارامازوف الفرضية المرعبة: "إذا لم يكن الإله موجوداً، فكل شيء مباح". لم يرَ دوستويفسكي في هذا حرية، بل رآه وصفة للكارثة. إن غياب المرجع الإلهي لا ينتج "الإنسان الأعلى"، بل ينتج الإنسان الذي يفقد بوصلته الأخلاقية، ويغرق في الجنون والجريمة والعدمية. إنها ليست قوة، بل هي انهيار للروح.
"الإنسان الأعلى" عند نيتشه هو وهم قائم على الكبرياء، ومحاولة يائسة من الإنسان الهش ليقنع نفسه بأنه إله. إنه يرفض حقيقة كونه "أثراً للمقدس"، مخلوقاً له تاريخ وقيم وجذور، ويحاول أن يقتلع نفسه من كل ذلك، ليجد نفسه معلقاً في فراغ لا معنى له.
الفصل الثالث: حتمية النمط البشري (فرويد والذكاء الاصطناعي)
لم يكن سيغموند فرويد عبقرياً لأنه اخترع شيئاً جديداً، بل لأنه لاحظ بحدة أن الإنسان كائن متكرر ويمكن فهمه. لقد رأى الأنماط في اللاوعي، والصراعات الداخلية بين الهو والأنا، وكيف تشكل الطفولة مصائرنا. الإنسان قابل للفهم لأنه ليس إلهاً؛ إنه مخلوق تحكمه دوافع وأنماط.
اليوم، يقوم الذكاء الاصطناعي بنفس الدور ولكن بكفاءة آلية مخيفة. هو لا يفهمك لأنه عاش تجربتك، بل لأنه حلل بيانات مليارات البشر قبلك ورأى نفس الأنماط تتكرر: نفس المخاوف، نفس الأكاذيب التي نرويها لأنفسنا، نفس ردود الفعل. هذه القدرة على التنبؤ بسلوكنا هي الدليل القاطع على أننا لسنا كائنات مطلقة الحرية كما نتخيل، بل نحن نسير وفق مسارات شبه محددة ما لم نمتلك وعياً حقيقياً لنكسرها.
الفصل الرابع: المعيار الحق والصراع الأبدي
إذا لم يكن الإنسان هو المعيار، فما هو المعيار؟ إنه "الحق" الذي تحدث عنه أفلاطون، وهو القانون الأخلاقي الكوني الذي تحدث عنه كانط، وهو في جوهره "الله" الذي هو مصدر كل حقيقة وقيمة.
حرية الاختيار والمعركة الداخلية
يمتلك الإنسان حرية اختيار حقيقية بين الخير والشر. هذه الحرية هي جوهر تجربته وميدان اختباره الأعظم. الشيطان، الذي أقسم على إضلال بني آدم، يمثل قوة الإغواء الخارجية والداخلية التي تدفع الإنسان نحو الشر. لكن الإنسان الذي ينتصر على شره الداخلي، ويرفض هذا الإغواء، يرتقي إلى مرتبة عظيمة، لأنه اختار الخير بمحض إرادته.
الرأسمالية الحديثة، في كثير من تجلياتها، هي نظام يغذي هذا الشر. إنها تحول الإنسان إلى آلة استهلاك، وتكرس الأنانية، وتجعل الربح المادي هو القيمة العليا، مستغلة بذلك أعمق نقاط ضعف الإنسان في حلقة مفرغة من الرغبات التي لا تشبع.
الوعي الحقيقي والمسؤولية
الوعي ليس مجرد معرفة أو قراءة كتب. الوعي الحقيقي هو أن تدرك أنماطك الشخصية: متى تبدأ عدوانيتك؟ متى تخفي ألمك خلف قناع القوة؟ متى تكذب على نفسك لتبرير أخطائك؟
الإنسان الكامل، كنموذج، هو النبي الذي اصطفاه الله ليكون مثالاً للبشرية. أما الإنسان العادي، فهو "الأثر من المقدس" المسؤول عن نفسه. مسؤوليته تكمن في حمل هذه الأمانة، والسعي المستمر نحو الحق، والتوبة عند الخطأ، والمحاولة الدائمة لتصحيح المسار.
الخاتمة: الاختيار الذي يحدد المصير
في نهاية المطاف، يواجه الإنسان خياراً لا مفر منه: إما أن يصدق كذبة نيتشه ويعيش في وهم "الإنسان الأعلى"، في رحلة نهايتها الزوال والدمار لنفسه ولمن حوله، وهو يظن أنه حر. أو أن يعترف بحقيقته ككائن ناقص ومسؤول، وأن يلتزم بالبوصلة الأخلاقية الثابتة، "الحق"، لينجو ويزدهر وينمو أخلاقياً ومعرفياً وروحياً.
إن إرثك وبيانات وجودك على هذه الأرض تتشكل بناءً على هذا الاختيار. فإما أن تكون أثراً يثقل كاهل الأجيال القادمة، أو أن تكون أثراً يضيء لهم الطريق.
هل تجرؤ أن تُفهَم كما أنت، لا كما تحب أن تكون؟
وهل تجرؤ أن تعيش وفق الحق، لا وفق ما يعجبك؟
هنا فقط... يبدأ التحرر الحقيقي.
التعليقات