إن التعامل اليومي بين الأفراد قائم على «الاعتماد المتبادل» كما سماه الفيلسوف الألماني هيغل (George Wilhelm Friedrich Hegel) (1770 1831)، وينتج هذا الاعتماد عن طريق قضاء الأفراد لمصالحهم الخاصة وغاياتهم الفردية، غير أننا بدل هذا المنعطف من الفكرة الشاملة الذي يمثل الانتقال من لحظة الجزئية إلى لحظة الكلية سوف نتطرق بالتحديد لمفهوم الوعي الإنساني ووصوله لحالة الوعي بالذات استنادا على جدل السيد والعبد.
فما هي المراحل التي سار فيها هذا الوعي بالذات؟
وهل يمكن للعبد أن يتحرر من قبضة سيده؟
حسب معجم مصطلحات هيغل تشير كلمة «واع – Consious...في الفلسفة إلى الوعي القصدي، أو الوعي بموضوع Gegenstand...ولقد استخدم كل من كانط وهيجل مصطلح "الوعي DasBewusstsein" للدلالة، لا فقط على وعي الذات، بل أيضا على الذات الواعية نفسها في مقابل الموضوع الذي تكون الذات على وعي به»([1]).
ويقول هيغل: «إنّما يجد [الوعي بالذات] ذاتَه كأنّها ماهيّةٌ مغايرةٌ...لا يرى الوعي بالذات المغايرَ كماهيةٍ، بل يرى ذاتَه هو في الآخر [يرغب فيه]»([2])، هذه الرؤية عند هيغل تجسد لعب قوى بين العبد والسيد، ومن خلالها يرغب السيد أو العبد في التوجه نحو الآخر؛ لأن «الطرفان يعترفان نفسيهما من جهة اعترافهما ببعضهما اعترافا متبادلاً...فلا يكون الواحد إلّا المعترَف به [السيد]، في حين الآخَرُ إلّا المعترِفَ [العبد]»([3]).
هذا، ولئن نحن طلبنا قدراً من التفصيل المؤنس، لقلنا: إذا ما كان الواحد معترفاً به (السيد) والآخر هو المعترِف (العبد)، فإننا هنا أمام حالة من الاختيار، هذا الاختيار الذي يحدد فيه الطرفان من السيد ومن العبد، وبالتحديد نحن أمام حالة من الوعي بالذات مفصلية في الاختيار؛ إذ من خلال هذا الاختيار سوف يتحدد الوعي بالذات الخالص (السيد) والوعي بالذات في شكل «الشيئية» (العبد)، لكن وكما عودنا الجدل الهيغلي، فإن هذا التحديد بين الطرفين لا يعني إقصاء أحدهما من قِبل الآخر، بل سوف يظل كل واحد من الطرفين مهما بالنسبة للآخر، وذلك بقول هيغل إن: «وجود...[السيد] أمام الشيء "الطبيعة" لا يتم إلا بواسطة...[العبد]»([4]).
فضلا عن هذا، تتسم هذه اللحظة بنوع من الاختبار بين طرفين، وذلك ما يظهر من خلال قول هيغل: «فكلّ طرف إنّما ينزع إلى موت الطرف الآخَر...فيمتحن كلٌّ منهما الآخر، عبر الصراع من أجل الحياة والموت»([5])، وعليه لا يتحقق خلاص كل فرد إلا بناء على استعباد الفرد الآخر، والذي سوف ينتصر سيصير السيد.
قد تأتى لنا عن هذا، أن نظرة هيغل أكثر واقعية في وصف الجدل القائم بين السيد والعبد، حيث ميزت في الأخير حسب تعبير هيغل بين «الوعي القائم بذاته الذي يستقيم له الكونُ لذاته [السيد]، وأمّا الآخر فغير قائم بذاته [العبد]، تكون عنده الحياةُ أو الكونُ لأجلِ مغايرٍ الماهيّةَ [السيد]؛ فذاك إنّما هو...[السيد]، وهذا إنّما هو...[العبد]»([6]).
غير أن هيغل لن يقف بنا هنا، بل مهد فقط لانبعاث العبد الذي سوف يجد نفسه أمام نموذج يقتدي به، ألا وهو السيد الذي صار مستهلكا للمتع واللذات على غرار العبد الذي ينتظر سيده يقظا، منتبها، متوازنا، لعله يدخل من الباب في أي لحظة، فتكون حقيقة العبد بذلك حسب قول هيغل: «في الأكثر الوعيَ التابع والمضافَ والفعلَ الذي ترتفع عنه الماهيّةُ»([7]).
ولا يقف هيغل عند هذا الحد، بل هيئ العبد للتحرر من خلال الخوف والتثقيف (التكوين) الذي سوف يتعرض له من خلال العمل عند السيد؛ إذ عن طريق الخوف من السيد تبدأ حكمة العبد حسب هيغل، لأن الخوف من السيد يُحرك في العبد وعيا بذاته، ومن خلال العمل يدرك العبد قدرته على تثقيف نفسه، والخوف يجعل من العبد يستوعب في نفسه الوعي الكوني بالذات، أمّا التثقيف فيجعل الوعي الكوني بالذات لذات العبد حاصلاً، ولكن «إذا لم ينصهر [وعي العبد] في الخوف المطلق وقف عند هذه المخافة الجزئية أو تلك...وبقيت هذه دون أن تتغلغل في جوهره»([8]).
عَوْداً على بَدْءٍ، الوعي الكوني بالذات عند العبد سوف يجسد حالة الاعتراف المتبادل بين السيد والعبد، لكن هذا الاعتراف لا يصل درجة الكلية بل يظل دوماً ناقصا، أو هو «معاندة خاصة» كما سماها هيغل، هي «حرية لا تزال لابثةٌ داخلَ الخدمة [خدمة العبد للسيد]»([9])، حرية وإن تحررت قد تجد سيدا آخر يلعب معها لعب القوى من جديد، سيدا مهدداً هو الآخر بأن يصير عبداً.
[1] ميخائييل انوود، معجم مصطلحات هيجل، ترجمة وتقديم إ.ع.إ، مكتبة مدبولي، 1996. ص 126.
[2] هيغل، فنومينولوجيا الروح، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، ط1. مركز دراسات الوحدة العربية، 2006. ص 268.
[3] المصدر نفسه، ص 270.
[4] محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيغل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2006، ط1، ص 170.
[5] هيغل، فنومينولوجيا الروح، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، ط1. مركز دراسات الوحدة العربية، 2006. ص 271.
[6] هيغل، فنومينولوجيا الروح، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، ط1. مركز دراسات الوحدة العربية، 2006. ص 273.
[7] المصدر نفسه، ص 275.
[8] هيغل، علم ظهور العقل، ترجمة مصطفى صفوان، ط3. بيروت: دار الطّليعة للطّباعة والنشر، 2001. ص 149-150.
[9] هيغل، فنومينولوجيا الروح، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، ط1. مركز دراسات الوحدة العربية، 2006. ص 278.
رابط المقال:
التعليقات