بعد أن غبت فترة طويلة عن منصة حسوب، شعرت بتعطش لنشر بعض الأفكار الخاصة، تلك التي لا تصلح لمنصات السوشيال ميديا النهمة للتراهات وتضييع الوقت، ووجدت نفسي أعاود الكتابة على حسوب مرةً أخرى.

أين يبحث الإنسان عن الأمان؟

بدايةً سأتحدث بما أشعر به، وأحاول وصف هذه المشاعر دون العودة للمصادر العلمية - التي أحترمها بشدة ولا أبرحها.

عندما نولد فإن مصدر الأمان الأول يكون الأب والأم، فهم يوفرون الأمن الغذائي والمعنوي - أو يُفترض أنهم يوفرون الأمان المعنوي - لكن الواقع يقول أن هذا المصدر زائل، قد يزول إذ هم أحياء حين يفشلون في توفير الأمان الكامل على المستوى النفسي، وقد يزول حين يموتون، فيتجه الإنسان إلى البحث عن الأمان في مصادر أخرى، فيجد بعضه في الأصدقاء، والبعض الآخر في الأقارب، على أن مصدر الأهل لا يُعوض، مما يدفعه إلى البحث عن الأمان عند الذات الإلهية.

لقد ربط الفيلسوف "أوسو" بين إيمان الناس بالإله وبين هذا الاحتياج بالأمان، وجادل بأنهم مالم يكونوا يحتاجون إلى هذا الشعور فإنهم لن يكونوا مؤمنين به، وبصرف النظر عن صحة هذا الزعم من عدمه، فإننا ربما لا نلتفت كثيرًا في حياتنا إلى احتياجنا لهذا الأمان، وإننا - في رأيي - لا نحتاج إليه باستمرار إلا إذا كان خطر ما يداهمنا باستمرار، لكن ما هو مصدر الخطر الذي يجعلنا نحتاج للأمان؟

النفس هي مصدر الخطر

الإنسان هو أخطر شيء على نفسه، فهو يفكر مرة، ويشعر ألف مرة، وفي أي مرحلة عمرية سوف يحتاج إلى الركن الآمن، وهذا يذكرني بما قاله دوستويفسكي في أحد رواياته "لا شيء أسوأ من أن لا يكون لديك مكان تذهب إليه"، وعلى الرغم من أن العبارة خرجت مبهمة من فاه ثمل بائس، إلا أنها رمت بدلالة قوية إلى مكانٍ آمن، مكان نذهب إليه! عندما ييأس الإنسان من الأمان على الأرض فإنه يبحث عن الموت، ربما يجد مكان آمن هناك، وهذا ما فعله الثمل في رواية دوستويفسكي حين ألقى بنفسه أسفل عربة حوزي.

والحال أن الإنسان يحتاج إلى أن يأمن من نفسه، أفكاره السلبية ومخاوفه المستمرة وقلقه الموضوعي والغير موضوعي، سوف يواصل الهرب من أفكار كثيرة سلبية أهمها فكرة الموت، إلى أكلة شهية أو علاقة رومانسية أو مشروع ضخم أو حتى إلى النوم، ولكنه حين يقف في مواجهة مخاوفه، ويشرع في نزعها تباعًا، سيأخذ اتجاه الناسك أو الورِع البوذي الذي يتخلص من كل ما هو إنساني ودنيوي، ويرتقي إلى ما يدعونه بالتنوير، أي أن الإنسان حين يحاول التخلص من مخاوفه فهو يتجرد من إنسانيته في عالم المادة، لأن المخاوف متأصلة فينا بطريقة لا نشعر بعمقها ولا نتوقعها، ولا يمكننا أن ننزعها دون أن ننزع إنسانيتنا معها، وهذه فكرة لا تعترف بمبدأ النسبة، ولا أراها واقعية.

كيف نعثر على الأمان؟

أعتقد أن السعي إلى الإيمان بالله أو الإيمان بأي شيء يجعلنا نشعر بالأمان، لهو سعي مشروع، وأن هذا لا ينقص من شأن الإنسان، لا شك في أن تأثير القلق الذي أعاني منه منذ فترة يعكس ظله على هذا النص الذي نظمته، لأنني ربما راقبت الحياة من خلاله بوصفها محاولة الهرب فقط، لكن طالما أني ألقيت بما داخلي على الطاولة أمامكم، فما هي مقترحاتكم للشعور بالأمان؟ وكيف نستطيع أن نجد لأنفسنا "مكان نذهب إليه" لنلتقط بعض الأنفاس كي نستمر؟ دون أن يكون اللجوء للناس والأهل مقترح أساسي.