بالحديث عن الألم علميا أو تطوريا، فهو حاجة الانسان لإدراك الخطر والمرض لتجنبه أو معالجته قبل تفاقم أعراضه. لكن ما حاجتنا إلى هذا الألم النفسي الذي نسببه لبعضنا البعض؟ على سبيل المثال "الانتقام" إحدى غرائز الانسان الأساسية، إنه يستمتع بإلحاق الأذى بالآخرين.

لتعلموا أنّه ليس هنالك من شيء شائع أكثر من الإساءة من أجل الإساءة. -بروسبر مريميه.

يقول نيتشه في كتابه "إنساني مفرط في إنسانيته" أن الانسان كان في الأدغال بطبعه يميل إلى العنف، يحطم الأشجار وكل ما يجده في طريقه، كتصرف طبيعي، ويكمل بطرحه هذا إلى غاية الوصول إلى فكرة أنه لا يستطيع اعتبار الإنتقام كدافع لالحاق الأذى والاستمتاع به كشيء لا أخلاقي. هنا أوقفت القراءة وقلت:

ماذا يا عم نيتشه.. إذا كنا لا نستطيع اعتبار أي تصرف أنه لا أخلاقي بمجرد كونه غريزيا، فليس بإمكاننا تجريم القتل أو أي شيء آخر على الاطلاق ربّما..

وهنا.. على أي أساس يمكننا تحديد الأخلاقي أو غير الأخلاقي؟

طالما كان صراع الأخلاق موضوعا معقدا، نسبيا، وغير مفهوم، وجدلا طويلا غير منتهي بين الفلاسفة، إلّا أنني أرى اليوم أن هذه الغرائز التي نحاول التسامح معها وعدم كبحها كتسامح مع طبيعتنا البشرية، تسبب آلاما نفسية عظيمة للآخرين.. ليتحول العالم إلى لعبة "فيديو غايم" يفوز فيه صاحب السلطة والمال والقدرة على الاحتيال.

إن المشاكل الأخلاقية ليست سوى نتيجة للتطور الهائل لدماغ الانسان، الذي أوصلنا إلى هذه الحضارة كلها، وادعائنا بفهم العالم، وغرورنا غير المكبوح. بقدر احترامنا لهذا العقل لما قدّمه من انجازات وتفوق ضمن عالمنا المحسوس (الذي نعرفه) إلّا أنه يظلّ باحثا عن كسر الملل بأية طريقة ممكنة، الدين، الفن، الحروب، الصراعات..

رغم أننا لا نريد أن نكون الضحية في الحكاية، لكن هل يمكننا أن نتخيل أي ملل سيصيب العالم من دون ألم نفسي؟

أن لا تشغل خيالاتنا ذكرى حبيبنا السابق، وحبيبنا الذي نتطلع إليه، وتلميع صورتنا أمام كل من انكسرنا أمامه من قبل. إن الآلام تصنع الحضارة بقدر ما يفعل الفضول.

هل تفضل عالما هادئا رتيبا من دون آلام؟ من دون طموح أو غرور أو رغبة في الانتقام؟ أم عالما مثيرا مليئا بالرحمة والقسوة والصراع؟ إن رتابة الملل لا تقلّ قسوة عن أية آلام أخرى يمكن للعقل البشري تخيّلها، حتى أن قمة العذاب كما تم وصفها في القرآن تتمثل في فعل مؤلم رتيب ومتكرّر.

كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب. (سورة النساء - قرآن)

إن الخوض في هذا الموضوع أكبر من تناوله في موضوع تفاعلي واحد، ولا يمكن اختصاره، لكنني أطرح السؤال..

هل نحن نتسلى بآلم بعضنا البعض؟