هذه الكلمات كُتبت عند تخرّجي من الكلية، تخليدًا لختام مرحلةٍ وبداية أخرى.

اليوم يُسدل الستار، لا على مشهد عابر، بل على فصلٍ طويل امتد منذ بزوغ الطفولة، واستغرق ستة عشر عامًا من الترحال في دروب التعلم، والبحث، والتأمل. كانت البداية خجولة، خُطى مرتجفة، وأفكار أولية تلامس أطراف المجهول، نحملها بعقول فتية لم تكن تدري كم من الأسرار تختبئ خلف ستائر الحياة.

سرنا هذه الدروب غالبًا فرادى، نتلمّس دفء صديق، أو معنى يفسّر هذا الوجود، أو بصيصا من نور في متاهة الغموض التي تلف أيامنا. وكأن الرحلة كلها كانت مرآة، نرى فيها وجوه الحياة تتبدل، من بهجة مرت بنا كهمسة ريح، إلى أحزان حفرت أخاديدها في أعماقنا.

تبدّلت الملامح، وتعاقبت الفصول. عرفنا الخيبة، فعلمتنا الصلابة. لامسنا المجد لحظات، فازددنا عطشًا. التقينا ورحلنا، وتعلمنا في كل لقاء وفراق درسًا، ليس في المعرفة وحدها، بل في معنى أن نكون بشرًا.

واليوم، ونحن نودّع هذه المرحلة، تلتقي الوجوه التي رافقتنا، فنقف معًا أمام السؤال الكبير: وماذا بعد؟

ماذا نفعل حين تُطوى الصفحات؟ حين نصحو على صمت لم نألفه؟

هناك من أنهى هذه الرحلة كما بدأها: في وحدةٍ لم تنكسر، ولم يلمح خلالها صديقًا يتجاوب مع صوت قلبه، وكأن الزمن مرّ به كعابر طريق لم يُلقِ السلام.

وهناك من يرى أن النهاية ما هي إلا عتبة أولى لبداية أعمق، بداية البحث عن الشغف، لا عن وظيفة، ولا شهادة، بل عن نارٍ خفية تدفئ الروح… عن حقيقة نجهلها عن هذا العالم، وعن ذواتنا التي تتبدل كل يوم.

فالتعلم، لمن ذاق حقيقته، ليس مسارًا يُنجز، بل عطش لا يرتوي، ورحلة لا تعرف نهاية.

نعم، كل مرحلة دراسية تقود إلى أخرى، لكن هذه الأخيرة لا تمنحنا بابًا واضحًا، بل تتركنا أمام مفترقٍ يفتح على السؤال.

في هذه النقطة بالذات، يبلغ الضغط منتهاه، ويشتد القلق، لا لأننا لم ننجح، بل لأن الغد ما يزال بلا شكل، بلا ملامح.

إلى أين نذهب؟

ما وجهتنا؟

هل سنجد أرضًا نغرس فيها جذورنا؟ أم أن الرحلة الكبرى تبدأ الآن، حيث لا خرائط، ولا معلمين… بل الذات وحدها، تبحث عن يقين في عالم متحول؟

هذه ليست نهاية الطريق.

إنها، ببساطة… بداية السؤال.