سنتحدث اليوم عن دعاء سمعته… لكنه لم يكن مجرد كلمات.
"اللهم أرنا الحق حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه."
سمعت هذا الدعاء في نهاية درس ديني منذ فتره ، وكانت الجملة الأخيرة في الحديث، لكن وقعها كان الأشدّ على قلبي.
كنت أجلس كأنني في مجلس عادي، أستمع بعقلي فقط… حتى جاءت هذه الكلمات، وشعرت فجأة أني لا أرى بوضوح، وأنني كنت أعيش أيامي الأخيرة وأنا أُخطئ، دون أن أُدرك أنني أخطئ، وأُقصّر، دون أن أستشعر حجم التقصير.
سألت نفسي:
كم مرة ظننت أنني على صواب، وكنت في الحقيقة أبتعد عن الحق دون أن أشعر؟
وكم مرة تجاهلت صوت ضميري لأن الباطل كان أسهل، وأسرع، وأكثر راحة في الظاهر؟
ثم تذكرت قول الله تعالى:
﴿ أفمن زُيِّن له سوء عمله فرآه حسنًا ﴾
وكانت الآية كصفعة للغفلة التي نغرق فيها أحيانًا.
كم منّا يظن أنه على خير، وهو يتهاون في الصلوات، يغتاب، يؤذي، يظلم، أو حتى يُبرر فتوره بأنه "طبيعي"؟
لكن لا، ليس طبيعيًّا أن نشعر بالثقل تجاه الطاعة
وليس عاديًّا أن نُخطئ ثم ننام دون استغفار
وليس بسيطًا أن نبتعد عن الله ثم نقول: "سأعود لاحقًا"
تذكرت قول النبي ﷺ:
"يُصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويُصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا."
كم هو مخيف أن تتبدل القلوب في غمضة عين
وكم هو ثقيل أن تستيقظ بعد زمن، لتجد نفسك لا تشبه نفسك التي كنت تدعو لها بالثبات
أقسم إنني مررت بمرحلة ظننت فيها أنني بخير
أوهمت نفسي أن ما أفعله لا يضر، وأن القلب لا يزال سليمًا
لكنني كنت أتغير دون أن أدري، وكان النور الذي في صدري يخفت يومًا بعد يوم
حتى شعرت أنني لا أجد لذة في شيء
لا في الدعاء، ولا في الحديث مع الله، ولا حتى في البكاء
كنت أُصلي، نعم، وأُتم الأذكار أحيانًا، لكن القلب لم يكن حاضرًا
كنت أكرر: "اللهم تب علينا"
لكن هل كنت أطلب التوبة حقًّا، أم أقولها كعادة؟
حين سمعت الدعاء:
"اللهم أرنا الحق حقًّا، وارزقنا اتباعه"
شعرت أن الله يُمهلنا كثيرًا، وينتظر عودتنا، وأن الهداية ليست مجرد معلومة تعرفها، بل نور يُلقيه الله في القلب
الهداية رزق
والثبات رزق
والخوف من أن ترى الباطل فتتبعه، أو ترى الحق فتتركه، هو خوف المؤمن الصادق
ثم تذكرت قول الله تعالى:
﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾
فارتعد قلبي…
أن أُترك لنفسي، أن أضل دون أن أشعر، أن أرى الباطل زينة، والحق ثقلاً
بدأت أراجع نفسي
أين أنا من القرآن؟
أين أنا من الصلاة بخشوع؟
هل أذكر الله بقلبٍ حي، أم بلسانٍ فقط؟
هل إذا متُّ الآن، سأرضى أن يكون هذا آخر ما أنا عليه؟
فهمت أن العودة ليست فقط بكثرة الأفعال، بل بصدق النية
أن أقول: "يا رب، لا أريد أن أعيش غافلة، لا أريد أن أخدع نفسي، أريد أن أراك في كل اختياراتي"
ومن هنا بدأت أدعو هذا الدعاء كل يوم:
"اللهم أرِني الحق حقًّا، وارزقني اتباعه، وأرِني الباطل باطلًا، وارزقني اجتنابه"
وكأنني أستسلم… أقول لله: خذ بيدي، لا تتركني
دلّني، ولو كان قلبي تائهًا، أصلحني، ولو كنت مُقصّرة
واجعلني ممن يرون النور في دربهم، لا الظلام في قلوبهم
نحن لا نحتاج كثيرًا من الكلام، لكننا نحتاج شيئًا واحدًا:
أن نهتدي، وأن نُثبّت، وأن لا تُطمس بصيرتنا ونحن نظن أننا نُبصر
فنسألك يا الله
أن لا تجعلنا ممن ضلّوا وهم يظنون أنهم مهتدون
وأن ترزقنا النور، ولو بعد طول عتمة
وأن تجعل آخر كلامنا، وآخر اختياراتنا، وآخر أعمارنا… على الحق.
وسؤالي هنا
ما هو الدعاء الذي قلتَه مرة… فخرجت منه إنسانًا مختلفًا؟
ما هو الدعاء الذي لم يغيّر فقط ما حولك… بل غيّرك أنت؟
التعليقات