المأساة الوجودية والصيرورة الإنسانية
يحمل الواقع الإنساني مأساة وجودية تتجلى في غياب نقطة انطلاق محايدة. نحن لا نبدأ من الصفر، بل نوجد وسط صيرورة سبقنا فيها العديد من الأحداث وتشكلت خلالها أفعالنا. هذه الصيرورة، التي قد تبدو أحيانًا موجهة بغاية وأحيانًا عشوائية بالكامل، تضعنا أمام حتمية اتخاذ قرارات جذرية. تلك القرارات تتطلب تجاوز القلق الوجودي والتردد الذي يُوهن العزم والإرادة.
لكن، كيف يمكننا فهم هذه الصيرورة التي تحدد وجودنا؟ وكيف يمكننا تجاوز قلقنا الوجودي دون السقوط في أوهام اليقين أو العشوائية المطلقة.
يمكننا هنا الاستفادة من الجمع بين طرحين فلسفيين كلاسيكيين:
كانط: الذي يحدد إمكان المعرفة البشرية بحدود الشروط العقلية التي تضعها الذات في مواجهة الواقع. بالنسبة له، المعرفة لا تكشف "الشيء في ذاته"، بل هي دائمًا مركبة من معطيات حسية وصور عقلية.
هيغل: الذي يرى أن الصيرورة ليست عشوائية بالكامل، بل هي حركة جدلية تعيد تشكيل الواقع وتطوره نحو تحقيق معانٍ أكثر عمقًا.
هذا الجمع يفتح أفقًا لفهم جديد، حيث لا تُلغى فكرة الجوهر، بل يُعاد تعريفها.
الجوهر كصيرورة: المادة وحركة الطاقة
الجوهر، في رأيي، ليس كيانًا جامدًا أو ثابتًا. يمكننا أن نعتبر الواقع المادي جوهرًا أساسيًا، لكنه جوهر خاضع للصيرورة. المادة نفسها، كما نعرفها اليوم في ضوء الفيزياء الحديثة، ليست صلبة ولا ثابتة، بل هي أشكال متغيرة للطاقة. هذا التصور يعيدنا إلى فكرة الحركة الجوهرية كما صاغها الفيلسوف الإسلامي ملا صدرا، حيث الجوهر ذاته متحرك في صميمه، وليس ثابتًا كما تصورته الفلسفات الكلاسيكية.
الإنسان: كائن متجذر في الصيرورة
الإنسان جزء من هذه الصيرورة، فهو كائن متجذر في الواقع المادي، خاضع للحركة والتغير في جسده ووعيه. لكن وعي الإنسان محكوم بزمانيته، أي بشعوره العميق بالفناء والزوال. هذا الوعي، رغم أنه مصدر القلق الوجودي، فهو بحمل أيضًا إمكانية البحث عن المعنى.
وفي قلب هذا الوجود المتغير، أؤمن بأن الإنسان يحمل داخله "نبضًا". هذا النبض ليس مجرد حركة مادية، بل هو إيقاع وجودي يربطه بالحقيقة الأصلية. يمكن للنبض أن يكون دليلًا مرشدا نحو مصدر الفعل الأول، نحو الحقيقة المطلقة، نحو الله
قلب هذا الوجود المتغير ينبض بحقيقة عميقة الإنسان يحمل داخله « نبضًا ». هذا النبض ليس مجرد حركة مادية، بل هو إيقاع وجودي يربطه بالحقيقة الأصلية. الله، القيوم الحاضر المهيمن على الوجود، هو مصدر هذا النبض ومعناه. الله ليس مجرد مفهوم عقلي ولا روحًا سارية في الوجود، بل هو الذات الإلهية المطلقة التي تتمثل في « فعل كن » المستمر، حيث تتجلى قدرته المطلقة في منح الصيرورة معناها وتوجيهها نحو الغاية الأسمى التي تتجاوز حدود الفناء.
إن الحديث عن الجوهر والصيرورة هو محاولة لفهم عمق الواقع الإنساني. فالصيرورة ليست نقيضًا للجوهر، بل هي تعبير عن حقيقته المتجددة. والإنسان، رغم زمانيته وفنائه، يمكنه أن يجد في النبض دليلًا نحو حقيقة أعمق، نحو الله كمنبع الوجود وغاية الصيرورة.
التعليقات