ما معني أن يذهب رجل وقور ليشاهد مبارة كرة قدم ثم يقفز من مقعده كطفل صغير عندما يسجل فريقه هدفاً؟ .. و ما معني أن يهتف شاب هاديء خجول في مظاهرة حتي يفقد صوته؟ .. و ما معني أن ينجرف شخص عاقل وراء مشاعره عندما يستمع إلي كلام فارغ لأحد الزعماء السياسيين أو لأحد رجال الدين؟ .. ما هو الشيء الذي جعل هؤلاء جميعاً تتبدل شخصايتهم بين الجماهير؟ .. إنهم جميعاً ينسون أنفسهم بين الناس و لا يفكرون بعقولهم و إنما يفكرون بعقل ٱخر أكبر من عقولهم .. إنه ما يسمي العقل الجمعي .. و هذا العقل الجمعي لا يفلت من أسره إلا قليلون.

و من هؤلاء القليلين ذلك الشاب الألماني أوجست لاندميسر عندما وقف عاقداً ذراعيه علي صدره .. رافضاً أن يؤدي التحية النازية لهتلر وسط جمع من النازيين الذين أشاروا جميعاً بتلك التحية .. إن ذلك الشاب الذي أحب فتاة يهودية .. و كانت سبباً في فصله من الحزب النازي .. لم يخطر علي باله أن صورته تلك سوف يخلدها التاريخ.

و عندما نسي عازف الناي سيد سالم أنه ترس في الٱلة الموسيقية التي تعزف وراء أم كلثوم .. و التي يقدس غنائها الحاضرون .. و تمرد علي النوتة .. و تمخض نايه عن أروع إبداعاته .. لم يدر بخلده أن قصة تمرده سوف يرويها الموسيقيون من بعده.

فما هو السبيل إذن للإفلات من هذا الأعصار المسمي بالعقل الجمعي .. و الذي يبتلع العقول .. و يمحو ما يعترضه من أفكار و مباديء .. إن السبيل هو أن تتجرد و ألا تنبهر .. أن تتجرد من كل المسلمات و تفندها .. فالكثير من المسلمات تتغير .. و ألا تنبهر بالأشخاص و الأفكار .. فإن الإنبهار هو الطريق لمحو العقل و إذابته في فيض من المشاعر.