مرحبًا يا رفاق الشِّعر!
إنها الثانية عشر والنصف بعد منتصف الليل تمامًا، الوقت المفضل لدي وللكلمات والشعراء، ذَرواْ شطراً يقول فيه صاحبه "كلام الليل يمحوه النهار"، بل يبقى كلام الليل ليستقبل المبكّرين صباحًا، ويعاتبهم على هجران الليالي.. مواطن القلوب الفضلى.
بالكاد لم أتجاوز المقدمة وقد سئمتم القراءة حتى، ليلنا وإن قصر صيفًا فهو طويل يكفي لأسمارٍ يتفجر منها الشِّعر، فالآن أعيروني انتباهكم بل قلوبكم، فجلسة اليوم سخية العواطف والشجن، إنها متوجهة من أعماقنا إلى أرض الوطن.
إن الوطن مساحة حرّة للتعبير والشِّعر، حيث يحبُّ الشاعر وينتمي، وربما احتضن الوطن أولى قصائده، كما احتضن أولى خطواته، كلماته، بهجات طفولته، حيث يتنفس حبه بعمق فيزفره شِعرًا، والعرب قديمًا عُرفوا بشدّة تعلّقهم بأوطانهم، وللجاحظ كتاب جميل جمع فيه بعضًا من أخبار العرب وكلامهم عن الأوطان والحنين إليها، رافقني في الأيام الماضية ويدعى "الحنين إلى الأوطان"، وأقتبس لكم نصًّا بديعًا لإجابة رجال من الأعراب تلخص قيمة الوطن بالنسبة للعربي، مصحوبةً ببيت من الشعر:
وقيل لأعرابي: ما السرور؟ فقال: أوبة بغير خيبة، وألفة بعد غيبة.
وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: غيبة تفيد غِنىً، وأوبة تعقب مُنىً، وأنشأ يقول:
وكنت فيهم كممطور ببلدته يُسَرُّ أن جمع الأوطان والمطرا
الغربة تعصف بأفئدة الشعراء الرقيقة، فيضحي نتاج ذلك أبياتٌ تشقّ طريقها إلى دواخل الإنسان لتذكره بتربة يحنُّ إليها، تُربة تمحو سنينًا من عمره فيعود طفلًا لا تجد الهموم إليه سبيلًا، يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في الوطن ناثرًا شعره:
الوطن موضعُ الميلاد، ومجمعُ أوطارِ الفؤاد، ومضجعُ الآباءِ والأجداد،١ الدنيا الصُّغرى، وعتبةُ الدار الأُخْرى، الموروث الوارث، الزائلُ عن حارث إلى حارثٍ، مؤسِّسٌ لبانٍ، وغارسٌ لجانٍ، وحيٌّ من فانٍ، دَواليْكَ حتى يُكسَفَ القَمران، وتَسكنَ هذي الأرض من دوران.
وليس أشقى من شاعر نُفي من وطنه، فأصبح كبلبل مقصوص الجناح في غربة لا يقدر على النجاة منها، وخير من نقل لنا لوعته في هذا الشأن، الشاعر بدوي الجبل الذي نُفي من حبيبته الشام فأهدانا قصيدته التي أحبها "البلبل الغريب"، أشارككم منها:
و لي وطن أكبرته عن ملامة
و أغليه أن يدعى _ على الذّنب مذنبا
و أغليه حتّى قذ فتحت جوانحي
أدلّل فيهنّ الرّجاء المخيّبا
تنكّر لي عند المشيب _ و لا قلى _
فمن بعض نعماه الكهولة و الصبا
و من حقّه أن أحمل الجرح راضيا
و من حقّه أن لا ألوم و أعتبا
الحديث في الأوطان يطول، وحقّ لي أن أختم جلستي بأبيات تخصّ موطني البهيّ، الذي سيبقى رغم جراحه فاتنًا يسكن زوايا قلبي، الأبيات التالية للشاعر السوداني سيف الدين الدسوقي.. إلى السودان:
عد بي إلى النيلِ لا تسال عن التعبِ
الشوق طي ضلوعي ليس باللعبِ
لي في الديار ديارٌ كلما طرفت عيني
يرف ضياها في دجى هُدبي
وذكرياتُ أحبائي إذا خطرتْ
احسُّ بالموجِ فوقَ البحرِ يلعب بي
شيخ كأن وقار الكون لحيته
وآخرونَ دماهُمْ كونت نسبي
أودّعكم الآن يا رفاق لعلّ لقاءً آخر يجمعنا في القريب العاجل، وأعلم أنّي ربما قد أثرت مشاعركم اليوم، ولكن هذا هو وقود حياة الإنسان، إذا ماتت مشاعره أصبح مجرد جثة متجولة بلا روح، وفي الختام لن أطلب منكم أن تهدوني الشعر هذه المرة، ولكنكم مطالبون بإهدائه إلى أوطانكم.
ليلة شعرية سعيدة!
التعليقات