قمت في مساهمتي السابقة بالحديث عن الحرية في الأوطان، ولكنني اليوم سأتناول الحرية من منطلق الفكر وسأطرح لكم رأياً لأبي العتاهية عنها .

في المساهمة السابقة اتفقت أغلب الأجوبة أن وطن بلا حرية لا يستحق البقاء فيه، ولكن ماذا إذا رحلت بحثاً عن هذه الحرية وعن الاستقرار المأمول وجاوزت الأرض الأولى ولم تلقَ ما تحن إليه روحك، ووصلت إلى التي تليها ولم تحصل على ما تتمناه، وجربت للمرة الثالثة ولم تكن ثابتة كما يقولون، فأين الحرية إذاً ؟ 

يقول أبو العتاهية :

طَلَبتُ المُستَقَرَّ بِكُلِّ أَرضٍ
فَلَم أَرَ لي بِأَرضٍ مُستَقَرّا
أَطَعتُ مَطامِعي فَاِستَعبَدَتني
وَلَو أَنّي قَنِعتُ لَكُنتُ حُرّا

إذاً كما أخبرنا أبو العتاهية، أنه وبعد طول ارتحال أدرك أن الحرية التي بحث عنها لم تكن في أرض دون سواها، بل كانت هذه الحرية في القناعة، وعبر التحرر من استعباد المطامع والرغبات، فقد لاحق أهواءه وارتحل طالباً إياها في كل البلاد فلم يلق ما كانت تطمح إليه نفسه، ولم تهبه أرض أكثر مما وهبته أرض أخرى، بل ما إن يلبي رغبة حتى تلمع رغبة أخرى، وهو كما يقول عنترة ابن شداد : وقلب الذي يهوى العلا يتقلب .

يعني إذا سار المرء وراء مطامعه ملبياً لها، استعبدته وسيّرته وفقاً لها، فالقنوع لا يحركه شيء ولا يفسد طمأنينته مجرد رغبة عابرة، بل يكتفي بما لديه، ويعيش ملكاً بما يملك كما يقول الثعالبي في الأبيات التالية :

هي القناعةُ فالزَمْها تعِشْ ملكاً 
لو لم يكنْ منكَ إلاّ راحةُ البدنِ 
وانظُرْ إلى مالكِ الدنيا بأجْمعِها 
هل راحَ منها بغيرِ القُطْنِ والكفنِ

لا يا أبا منصور، لم يغادرها بأكثر من القطن والكفن .. وأنت عزيزي القارئ، هل توافق أبو العتاهية في رأيه أن الحرية في القناعة بما لديك أم لديك تعريف أخر؟