لتميم البرغوثي مقطوعة بديعة من قصيدته البُردة في مدح الرسول الأكرم (ص) يقول فيها

‏وسنة الله في الأحباب أن لهم … ‏وجهاََ يزيد وضوحاََ كلما أبتعدا
‏كأنهم وعدوني في الهوى صلةََ … ‏والحر حتى إذا لم يعد وعدا

لي يومان أفكِّر بما قاله تميم: والحرُّ حتِّى إذا لم يعد وعدا، الله!

سياق الأبيات أن تميم يتشكَّى من قوم لا يستطيع وصالهم، ومع ذلك يُسمّيهم الأحباب ويتمنّى لقائهم، ويصل لهذا البيت ويقول كأنِّي لمحتُ منهم موعدَ وصال، حتَّى لو لم يعدوا بذلك نصًا، فكلام الحرّ أيًا كان وعد.

هذا تمهيد للدخول في موضوع القصيدة، وشوق لقياه إلى خير الخلق رسول الله محمد (ص) وهذا النوع من التمهيد شائع جدًا في أبيات العرب، فتراهم يقصّون قصّة عن فتاة يتعشّقونها وقد كان لها معهم مواعيد ولقاءات، ثمَّ ينتقلون لغرض القصيدة كأن يصفون كرم الممدوح في البذل والعطاء، فكرم الغانية ينسجم مع كرم الممدوح. وهذه الصِلات الخفيِّة من أجمل المواطن في شعر العرب.

والحر حتى إذا لم يعد وعدا

أعود إلى هذا الشطر البديع، كلام الحر وعد، كل شيء يقوله الحرُّ وعد ودينٌ عليه.

والحرُّ لا يتميَّز بقوة جبّارة، تطوِّع الصعاب، وتلوي الأقدار لكي يحقّق كلمته، ويكون فعله مطابق لمقاله، لا. هناك شيء أكثر عمقًا ومنطقًا.

أريدُ أن آخذ البيت لطبقة أعمق، رُبما لم يقصدها تميم، لكنَّه سيكون فرحًا بها، الحرُّ لا يحفظ عهده بالقوة، بل بأن يكون وعده حقيقيًا.

كلّ شيء يقوله الحر، يجب أن ينبع من انسجام كل اجزائه، وائتلاف روحه بكاملها، فلا يقول شيئًا إلّا وقد قصده، ولا ينطق بوعد إلّا وقد كان تطبيقه جزء من وجوده.

كيف يكون هذا؟ إنّه لأمر عسير، القوّة والبطش أسهل للحفاظ على الكلمة من هذا المستوى من الانسجام مع النفس، لكنّه ممكن إذا قابل المرء منّا نفسه ساعات وساعات، تحدَّث معها وعرف ما تُريد، ولم يرضَ تخديرها بمُخدّرات العصر.

وما هي مخدّرات العصر؟ كلُّ ما صرَفك عن مقابلة نفسك، ولعلَّ أكثر ما ينطبق على جيلنا هو المخدرات الرقمية، من مواقع التواصل وما يصحبها من ترندات، وساعات المرئيات والفيديوات التي لا تنتهي.

احفظ عنِّي الرسالة: كلام الحرِّ وعد وإن لم ينصَّ عليه، والحرُّ لا يحفظ وعده بقوِّة الارادة، بل بأن لا ينطق عن الصبا والهوى، وذلك يحصلُ بطول مُعالجة للنفس، ومُقابلةٍ لما يشغلها ويهمّها.