الشعراء.. هؤلاء القوم الأكثر شاعرية والأبرع توظيفاً للغة في ما يكتبون، يركبّون الحروف والكلمات بإتقان كما يراقص الفنّان ريشته ليولّد لنا أبهى اللوحات الفنية، فيكون نتاج صنعته هذه الأبيات الراقية التي يضعها بين يدينا، فتضحكنا و تبكينا و تحرّك دواخلنا، وتحيي بداخلنا مشاعراً أماتتها غيبوبة التغافل .

مُزِجت دموعُ العين منّي 
يوم بانُوا بالدماءِ 
فكأنما مزجت لِخَدّي 
مُقلتي خمراً بماء 
ذهب البكاء بعَبْرتي
 حتى بكيتُ على البكاءِ

هذه الأبيات بين يديكم للشاعر المكنّى بِكشاجم، وما بين رقة اللفظ وقوة المعنى، يذيب حسّ القارئ في حزنه وبكائه، وأنوّه هنا أن هذه الأبيات تنتمي إلى الغزل، وهي ليست حتى رثاءاً، وإنما من قوة وصدق تعبيره حسبناه رثاءاً في عزيز توفاه الله، فيخبرنا الشاعر كيف بكت عينيه بِلوعة لما مرّ به، دون أن ينتابه حرج من ذكر هذا الفعل النابع من طبيعته البشرية، وكثيرون هم الشعراء الذين خلّدواْ أحزانهم ودموعهم بإشهارها في أبياتهم دون أن يخشواْ من أن تتلوث صورتهم أمام الناس أو تهتزّ، فهم عند الوغى أشاوس، وعند الشجن مرهفي الإحساس، وليس في ذلك انتقاص من رجولتهم، فلمَ يحاصِر الرجل العربي دمعته بوهم الرجولة الزائفة في هذا الزمان ؟

أَلَم تَرَ أَنّي يَومَ جَوَّ سُوَيقَةٍ 
بَكَيتُ فَنادَتني هُنَيدَةُ مالِيا 
فَقُلتُ لَها إِنَّ البُكاءَ لَراحَةٌ 
بِهِ يَشتَفي مَن ظَنَّ أَن لا تَلاقِيا

وهنا الفرزدق يجاهر ببكائه أمام هنيدة، ولا يرى في ذلك عيباً، ربما يقول لي أحدهم وما أدراك أن ما يقوله هو الحقيقة وأنه قد بكى فعلاً، وإن كنت أتحفّظ على اتهام الشعراء بالكذب، فالمشاعر الصادقة هي من تصل إلى قلوب الناس أما الكاذبة فمهما جمّلتها لا تصل، سيكون ردّي له : افرض انه لم يبكِ فعلاً، ولكنه لم يجد حرجاً في نسب هذه الصفة إلى نفسه، فقد أعلنها أمام الملأ "بكيت" . بالمناسبة هل سبق وأن أبكاكم شاعر بأبياته؟

أعود هنا لسؤالي الأول، إذا كان الشاعر العربي لا يخجل من البكاء، فلماذا يمتنع رجال هذا الزمان عنه ؟