عندما نقول زهد تنطلق في عقولنا عدة أسماء كالشافعي وأبو العتاهية وعندما نذكر المجون فلا نستطيع تخيل غير أبا نواس وبشار بن برد، ومن بين هؤلاء من جمع بين الزهد والمجون في مسيرته الشعرية، ربما يكون قد عرف بلون واحد ولكنه صال وجال في الإتجاه المعاكس .. فما هي قصصهم وما الذي أدى إلى تحولهم بين الإتجاهين ؟
الجمع بين معنيين متضادين كالزهد والمجون في الشعر يقدم لنا صورة واضحة حول تقلبات النفس البشرية وتأثير الحياة الإجتماعية السائدة على الشعر والشعراء، فماجن اليوم تراه في الغد ناسكاً زاهداً، لأقرانه واعظاً، وزاهد اليوم قد يتحول إلى سيد جلسات المجون ورائد شعره، لذلك برز لنا شعراء كُثُر عرفوا بالشعر في الإتجاهين وإن كانوا قد اشتهروا بأحدهما .
أفضّل أن أصب تركيزي على العصر العباسي كونه عصر الشعر والأدب والتحولات السياسية والاجتماعية المختلفة، لذلك نجد وجوداً بيّناً لشعر المجون في ذلك العصر نتيجة لاختلاط العرب آنذاك بالمجتمعات الأخرى وتمازج ثقافاتهم، وعيش حالة الترف إضافة للإضطرابات السياسية المختلفة، وأبرز الشعراء في هذا المجال ابن الحجاج الذي يقول :
لو جد شعري رأيـت فيــه كـواكب اللـيل كـيف تسـرى ّ
وإنما هـــــــزله مـــــجون يمشي به في المعاش أمري
إن أبرز ما يميز هذا اللون من الشعر هو الهزل والسلاسة وشيوع ألفاظ المجون كالخمر والجواري، بينما يتخذ الزهد شكلاً آخر فيخاطب الناس واعظاً مذكراً بلغة بسيطة غير متكلفة ويعد الموت هو العنصر الأكثر شيوعاً في هذا الشعر كما نجده في أبيات أبي العتاهية بكثرة مثل البيت أدناه :
يا ذا الَّذي اِتَّخَــذَ الزَمـــانَ مَطِيَّةً وَخُــطا الزَمانِ كَثيــــرَةُ العَثَراتِ
ماذا تَقولُ وَلَيـسَ عِنـدَكَ حُجَّــــةٌ لــَو قـَد أَتــاكَ مُنَغـــِّصُ اللـــَذّاتِ
زُرتُ القُبورَ قُبورَ أَهلَ المُلكِ في الــدُنيا وَأَهلِ الرَتعِ في الشَـهَواتِ
كانوا مُلــوكَ مَآكِـــلٍ وَمَشــارِبٍ وَمَلابـــِسٍ وَرَوائِــــحٍ عَطِـــراتِ
وقد يعرف أحد الشعراء بلون ما ولكن تجد له أشعاراً في اللون الآخر، كابن سكرة الذي قيل عنه أنه "جار في ميدان المجون والسخف ما أراد"، ولكن أسلوب حياته القائم على اللهو والمجون والذي انعكس على شعره لم يُمِت خشية الله في قلبه، ولم يبعده عن قول الشعر في الزهد والتوبة، وهو الذي تساءل في شعره عن حاله بعد الموت وحسابه بعد ذلك في هذه الأبيات :
محمدُ ما أعددت للقبر والبلى وللملكين الواقفين على القبر
وأنت مصر لا تراجع توبةً ولا ترعوي عما يذم من الأمر
تبيت على خمرٍ تعاقر دنها وتصبح مخموراً مريضا من الخمر
سيأتيك يومٌ لا تحاول دفعه فقدم له زاداً إلى البعث والحشر
برأيكم، ما هو حجم تأثير الحياة الاجتماعية على الشعر، وهل لشعر المجون والزهد وصراعاتهما وجود في زماننا هذا ؟
*اعتمدت في هذه المساهمة على الدراسة التحليلية التالية :
التعليقات