*(نُشِرَ هذا المقال بالأصل على مدوّنتي صباحَ اليوم، وقد نقلتُه إلى هنا نصاً تسهيلاً للقراءة. بإمكانك تصفّح التدوينة الأصلية من خلال الرابط الآتي:

https://abbad.me/2018/03/20...

كنتُ أنوي لهذه التدوينة أن تكونَ محض مراجعة عن فلم عظيم شاهدتهُ خلال الأسبوع الماضي، وهو فلم The Big Short من إنتاج سنة 2015، إلا أنَّه، لكونه أقرب إلى إنتاج وثائقي منهُ إلى مجرّد فلم للسينما، فأنا أجدُ نفسي مجبراً على أن أُسهِبَ في هذه التدوينة بالحديث عن علم الاقتصاد عوضاً عن الفلم نفسه، يحثَ أن الموضوع الرئيسيَّ للفلم يتمحورُ حول الأزمة الاقتصادية التي ألَّمت بالولايات المتحدة خصوصاً والعالم بأسره قبل عشر سنوات، في عام 2008، والتي أدَّت ببنك "الإخوة ليمان"، وهو ما كان رابع أكبر بنك في الولايات المتحدة، للإعلان عن إفلاسه وتصفية كلّ أملاكه. في الواقع، كانت الأزمة المالية على وشك التحوّل إلى كارثة وانهيار شاملٍ لاقتصاد الولايات المتحدة، لولا اتخاذ الحكومة إجراءات فوريَّة وصارمة. قصة وقوع هذه الأزمة وخروجِ العالم منها، عندما تفهمُها عن قرب، مبهرة بكلّ معنى الكلمة، وتحملُ تفسيراتٍ كثيرة للأسس السياسية والاقتصادية التي يقومُ عليها العالم الآن.

البنوك: مُحرّك الاقتصاد العالمي

لعلَّك تساءلتَ في يومٍ من الأيام (أو كان يجدرُ بك التساؤل، إذا لم تُفكّر بالأمر) عن كيف تربحُ البنوك أمولها؟ فالبنوك، مثلها مثلُ كل الشركات التجارية، موجودةٌ لتُقدّم خدمات وتتقاضَى عليها دخلاً. ليسَ ذلك فحسب، بل إنّ البنوك هي - على الأرحج - أغنى الشركات وأكثرها ربحاً بالعالم، فهي تتاجرُ بأثمن سلعة نعرفُها: وهي المال نفسه. فكيفَ ذلك؟

يحصلُ البنك على دخله بطريقة واحدة أساسية، وهي الاستثمار. فالبنكُ يتحكَّمُ بكمية هائلة من سلعة رائعة، وهي المال، ويمكنُ استخدام المال بطرقٍ كثيرة في استدرار المزيد والمزيد من الأموال. تستثمرُ البنوك أموالها بطرقٍ كثيرة لتحصيل الربح، فقد تستخدمها في شراء الأسهم، أو السندات، أو تمويل المشاريع، أو بيع القروض الربوية، وهي مصطلحاتٌ قد يكونُ بعضها مزعجاً لك الآن، لكنّنا سنعملُ على تفسيرها كلّها لأهميتها في موضوعنا. تقومُ معظم هذه الاستثمارات على فكرة أن البنكَ يستفيدُ من امتلاكه لرأس مال كبير (كثير من الكاش أو السيولة)، لـ"يؤجّرها" لمن هو بحاجة إلى المال، ليحصلَ منها - في المقابل - على فوائد. فلو كنتَ - على سبيل المثال - ترغبُ بشراء منزل لك، قد تجد أنك مضطرّ لأن تقضي نصفَ حياتك المهنية في تجميعِ المال لتحصيل سعره. لكن بدلاً من ذلك، يستطيع البنك أن يعرضَ عليك قرضاً ربوياً، فيشتري البنك منزلك بدلاً منك، ثُمّ يجبرك على تسديدِ سعرِ المنزل له مع زيادة تصلُ إلى 10-15% على شكل أقساطٍ شهرية صغيرة، تستطيعُ اقتطاعها من مُرتَّبِك، لمُدّة عشر سنوات مثلاً.

لكن هذه الطريقة في الإقراض خطيرة. فلمَ ذلك؟ عندما يمنحُ البنك قرضاً ربوياً لك، فهذا يعني أنّه عطّل جزءاً من السيولة الموجودة عنده، لأنه لن يستعيدَ منك قيمة القرض حتى مرور فترة قد تصلُ إلى عشر سنوات. إلا أنَّ الأسوأ من ذلك هو أن المال الذي أقرضهُ البنك لك هو بالحقيقة ليس ماله، بل هو جزءٌ من ودائع عملاء آخرين - مثلك - أودعوا أموالهم في هذا البنك. هذه الحقيقة تعني أن البنك لا يحتفظُ بالمال المودع بخزينته لتستلمه متى أردت، بل هو يحتاجُ إلى تحريكه باستمرار للحصول على الرّبح، وهنا تبرزُ نقطة ضعف البنوك.

فلنقل مثلاً، في سيناريو خياليّ مُبسّط، أن بنكاً قد افتتحَ في الأسبوع الماضي في مدينتك. ذهبتَ أنت وصديقك إلى البنك وأودع كلّ منكما عشرة آلاف دولار. لو عدتَ إلى البنك بعد شهر، هل تتوقّع أن تجدَ 20,000 دولار في خزينته؟ في الواقع، ستجدُ 15 ألفاً أو 10 آلاف فحسب، وأما باقي الأموال، فتكونُ قد ذهبت للاستثمارات. يعتمدُ البنك هنا على حقيقة بسيطة جداً، وهي أنه من المستحيل أن يأتي جميعُ عملائه، في يوم واحد وساعة واحدة، ويطالبونَ بسحبِ أموالهم كلّها، ولذلك فإنه يستطيعُ دائماً أخذَ جزء من مالك والمتاجرة بهِ طالما أنكَ لست بحاجة إليه. ولو قرَّرتَ فجأة سحب 10,000 دولار من حسابك، فلن تكونَ تلك بمشكلة حقيقة للبنك، لأنه سيأتي غيركَ ليودع ما يعادلها أو أكثر في اليوم التالي أو الذي يليه. وهكذا يستمرَّ البنكُ بالعمل، إلا في حالة واحدة فحسب، وهي حالة الأزمات الاقتصادية، فوقتها يقعُ الذّعر.

السببُ الذي يدفعُ الناس للشعور بالذّعر، في أوقاتِ الأزمات، هو تحديداً ما يصنعُ الأزمة التي يقعونَ بها. فلو أعلنت وكالات الأخبار عن حصول أزمة اقتصادية، لكن جميع الناس ضبطوا أعصابهم وجلسوا في منازلهم مرتاحين وتركوا أموالهم في البنوك، فلن يحدثَ شيء لأحد. لكن ما يحصلُ هو أن كلّ شخصٍ يصابُ بالهلع من أن جميع الأشخاص الآخرين سوفَ يذهبُون إلى البنك ويسحبون ودائعهم منه، ولذلك فيُسارعُ هو بالذهاب لسحب أمواله قبلهم.

هذه هي الحالة الوحيدة التي يمكنُ أن يحاولَ فيها جميع الناس استعادة ودائعهم من البنك في ساعة واحدة ووقتٍ واحد، وهُنَا يتعرَّضُ البنك لأكبر نقاط ضعفه: فهو، في الحقيقة، لا يملكُ من السيولة (المال الورقي) ما يكفِي لتسديد ودائع كلّ عملائه، لأنه كان منشغلاً بإقراض ودائعهم لغيرهم من العملاء. عندما يعجزُ البنك عن تسديد الودائع، يتحوَّل فجأة من مدين إلى دائن، ولا يعودُ أمامه خيارٌ سوى إعلان إفلاسه وتصفية أملاكه. في أوقات الأزمات الاقتصادية، لا بُدّ أن تتعرَّض الكثيرُ من البنوك الصغيرة للإفلاس بهذه الطريقة. ففي أيام الكساد الكبير بالولايات المتحدة، بين عامي 1929-1932، أعلنَت حوالي 20% من البنوك الأمريكية عن إفلاسها.

الاقتصاد العالميّ والغرقُ في أزمة عام 2008

على مرّ المائة عام الأخيرة، منذ تطوّر النظام الاقتصادي الغربي وانتشاره في العالم، بحثت عن البنوك عن الطرق المثلى لاستدرار أكبر كمّ ممكنٍ من الربح من خلال متاجرته بالمال، ومنذ منتصف القرن العشرين، بدأت البنوك بالاتجاه بشكلٍ متزايد نحو قطاع أدرَّ عليها ربحاً لا يُوصَف، وهو قطاع العقار. يعتمدُ قطاع العقار على كون امتلاك منزل طموحاً أساسياً في حياة معظم الناس بعصرنا الحاضر، وبالتالي فلو كانت البنوك قادرةً على تمهيد الطريق أمام هؤلاء الناس المساكين لشراء منازل خاصَّة بهم، فستكونُ قادرةً على جذب عدد هائل من العملاء الجُدد، وهذا ما فعلته بالتحديد.

ما يُميّز التعاملَ في قطاع العقار بأنه مضمون وآمن جداً بالنسبة للبنك. الأمرُ بسيط جداً: فلو كنتَ تريد شراء منزل جديد، كلّ ما عليكَ هو اقتراضُ مبلغٍ هائل من المال من أحد البنوك، ومن ثم لن يكونَ عليك سوى اقتطاع قسم من مرتّبك الشهري لعدة سنوات (أو سنوات كثيرة جداً، لو لم يكُن دخلك مرتفعاً) لتسديدِ ما اقترضته بعدَ أن تضاف عليه بعضُ الفوائد. وبما أن لدى البنكِ جميع بياناتك القانونية، فإن التحايل أو التهرّب من الدفع ليس خياراً ممكناً بالنسبة لك، إلا إذا ما كنتَ مستعدّاً لتوظيب أغراضك والفرار إلى المكسيك (وهو ما قد لا يُفضّل معظم الناس عمله)، وبذلك وجدتها البنوكُ صفقة ممتازة وسهلة.

لكن ما حدثَ في الولايات المتحدة، مع نهاية القرن العشرين، هو أنَ أسعار العقارات والبيوت في الولايات المتحدة ارتفعت بشكل حادّ جداً، وبالتالي فقد بلغ الجشعُ بالبنوك وطمعها بكسبِ المزيد من الزبائن وبيعهم هذه المنازل ذات الأسعار الفارهة درجةً أعمَتْ إداراتها عن إجراء أيّ رقابة على عملية البيع. ففي الظروف العادية، يفترض بالبنوك، قبل الموافقة على منحِ قرضٍ لشخص يرغبُ بشراء منزل، أن تطلبَ أوراقاً ثبوتية من هذا الشخص تدلّ على أنه يتقاضى مرتباً شهرياً يسمحُ له بدفع الأقساط المطلوبة منه. ومن الحريّ بالبنك أن يتوقع، لو منحَ 1,000 قرضٍ خلال عام مثلاً، أن ثمة خمسة أو عشر أشخاصٍ سيختلّفون عن دفع قروضهم، وسيسبّبون للبنك بعض الخسارة (إما بسبب التأخّر بالسّداد أو بسبب انعدام قدرتهم على ذلك أصلاً، وفي هذه الحالة قد يدخلون السجن، وربّما يحاولون التملص بالهربِ إلى ولاية أو دولة أخرى)، ولكن ذلك لن تكونَ له أهمية كبيرة لأن أرباحَ البنكِ من العملاء الآخرين قادرةٌ على تعويضه عن خسارته، وبالتالي سيستمرّ بالعمل بطريقة طبيعية.

إلا أن نسبة المتأخرين عن الدفع ارتفعت أكثرَ من ذلك بكثير. في الحقيقة، وصلت نسبة المُتخلّفين عن دفع أقساط قروضهم العقارية في الولايات المتحدة، عام 2006، إلى 4% تقريباً، وهي نسبة كبيرة جداً. ومع اقتراب عام 2007، بدأت النسبة تدريجياً بالاقتراب من 10% في جميع أنحاء البلاد، ومع أن هذه النسبة قد تبدو صغيرة، لكنّها كافية في الواقع لتحويلِ تجارة العقار بأكملها من ربح إلى خسارة فادحة بالنسبة للبنوك. في شهر آذار/مارس عام 2007، تقدَّمت شركة New Century Financial، وهي واحدةٌ من أكبر مؤسسات الإقراض العقارية في الولايات المتحدة آنذاك، بشكوى لوزارة العَدْل الأمريكية ضدّ 84% من عملائها بتهمة التأخر عن الدفع، لكن لم يكد يمضِ شهر واحد على هذا الإجراء اليائس حتى اضطرَّت المؤسسة للإعلان عن إفلاسها في 2 نيسان/أبريل، بعدَ تراكم ديون عليها بقيمة تتجاوزُ 100 مليون دولار أمريكي.

فلم The Big Short وما يجعلهُ رائعاً

تدور أحداثُ الفلم، المقتبس عن واحد من أكثر كتب النيويورك تايمز مبيعاً (The Big Short)، حولَ مجموعة من روَّاد الأعمال وموظّفي البنوك الذين تنبّؤوا بالأزمة الاقتصادية العالمية قبل وقوعها بعامَيْن تقريباً. والحقيقة أن أياً من هؤلاء الأشخاص لم يكُن مهتماً بتحذير العالم من الخطر القادِم (ولعلَّ أحداً لم يكُن ليستمع إليهم على أيّة حال)، ولكن ما كانوا يقومون به، وما يُركّز الفلم عليه، هو كيفَ أنهم استطاعوا استغلال معرفتهم المُسْبَقَة بالكارثة ليصنعوا ثرواتٍ هائلة من الدّمار الذي جلبته.

مايكل بوري

في عام 2005، أجرى خبير اقتصادي اسمه مايكل بوري حساباتٍ استنتجَ، بناءً عليها، أن قطاع العقار الأمريكي سينهارُ خلال سنتين على الأكثر. كان مايكل مديراً لمحفظة استثمارية ضخمة في الولايات المتحدة، والمقصود هنا بـ"المحفظة الاستثمارية" هو صندوق استثماري خاصّ، حيثُ يستقبلُ مايكل كميات هائلة من المال (مئات ملايين الدولارات) من الأثرياء الراغبين بزيادة ثرواتهم، ومن ثمَّ يستثمرُ أموالهم في سوق المال بشراء السندات أو الأسهم وما سواها، ويعيدُ الأموال إلى أصحابها مع بعضِ الأرباح التي يقتطعُ لنفسه جزءاً منها. ولكن آلية العملِ هذه خطرة بعضَ الشيء، لأنها تعني أن المال الذي يستثمرُه مايكل بوري في مشاريعه ليسَ ملكاً له، وبالتالي فإنَّه مجبرٌ على الأخذ بآراء أصحاب المال عندما يقدمُ على استثمارٍ جديد للتأكّد من موافقتهم على كيفية استخدام أموالهم.

مايكل بوري في مكتب عمله الحقيقي، والذي أُعِيد تصميمه في فلم The Big Short بدقّة شديدة.

لكن الخطوة الجريئة، والخَطِرة جداً، التي أقدمَ عليها مايكل في سنة 2005 كانت دونَ أيّ مشورة من مستثمريه. فقد ذهبَ إلى مؤسسة مالية عملاقة في أمريكا، وهي Goldman Sachs، وطلبَ منها أن تبيعه سنداتٍ مالية للعقار "بيعاً مكشوفاً". ولتبسيط الأمور، فإن ما فعله مايكل كان ضرباً من المقامَرَة: فقد أخبر المؤسسة المالية بأنَّه يرغبُ بالمراهنة بمبلغِ 100 مليون دولار أمريكي على أنّ السندات العقارية ستنخفضُ قيمتها، فلو حافظَت سندات العقار على قيمتها الأصلية لن يستعيدَ مايكل قرشاً من أمواله، وأما لو ارتفعت قيمتها فسيكون مديناً بعشرات ملايين الدولارات لـGoldman Sachs، ولكن إذا ما انخفضت قيمة العقار فقد يُحقّق ربحاً هائلاً، ربّما يصلُ إلى أربعة أو خمسة أضعافَ المبلغ الذي راهنَ به.

بالنسبة لمؤسسة Goldman Sachs، كانت هذه الصفقة عبارةً عن مالٍ على طبقٍ من ذهب، فقد كانت المؤسسة (مثلها مثلُ معظم خبراء الاقتصاد في ذلك الحين) واثقةً تماماً من قوّة وثباتِ السوق العقارية، وبالتالي فلم يكُن هناك أيّ سببٍ للقلق من انخفاض قيمة السندات، ولا سببَ - بالتالي - لأن يخسروا أي مالٍ من هذه المراهنة. من يمكنه أن يرفضَ 100 مليون دولار مجاناً؟ لم يكتفِ مايكل بهذه الخطوة الجنونية فحسب، بل أخذ يذهبُ إلى بنوك ومؤسسات عملاقة أخرى ليراهنَ عندها بمبالغَ مماثلة على انهيار السوق العقارية. ولم يختلف رأيّ المستثمرين الذين يتعاملونَ مع مايكل بوري بأيّ درجة عن رأي المؤسسات المالية التي راهنَها، فقد اعتقدوا أن مايكل تبرّع بأموالهم مجاناً، ممَّا أثار حنقهم الشديد. رُفِعَت عليه الكثير من الدعاوى القضائية، وانسحبَ من محفظته الكثير من المستثمرين، لكنه أصرَّ أن يثبتَ على رأيه.

ستيف آيسمان

في الوقتِ ذاته، كان ستيف آيسمان، وهو مدير مالي لشركة باسم Front Point، يمرّ بيوم عمل عادي في مكتبه تلقّى اتصالاً خاطئاً من موظف في البنك الألماني (Deutsche Bank) يُدعَى غريغ ليبمان، والذي كان يحاولُ - في ذلك الحين - الوصول إلى مسؤولين في بنوك ومؤسسات استثمارية كُبرَى ليعرضَ عليهم صفقة حياتهم: فقد كان غريغ يدركُ أن السوق العقارية على وشك الانهيار، وأن على جميع المستثمرين الأذكياء البدء بالمراهنة على انهيارها، لكنّه واجه مشكلاتٍ بإقناع أشخاصٍ غيره بهذا الأمر. رغم أنَّ المكالمة الهاتفية وصلت ستيف آيسمان بالخطأ، إلا أنّه - ما إن سَمِعَ بالفكرة - حتى أبدا على الفور اهتماماً شديداً. وظَّف ستيف خبرائه الماليين والرياضيين لدراسة السوق المالية في أمريكا، ووجدوا (لمفاجئتهم) ما يدلّ بالفعل على احتمالية وقوع انهيار اقتصاديّ. عندها، وافقَ ستيف على شراء مقايضات ائتمانية من غريغ ليبمان بقيمة 100 مليون دولار.

بعد انتهاء الأزمة المالية العالمية لعام 2008، ربحَ غريغ ليبمان، وهو موظف البنك الألماني الذي باعَ المقايضات الائتمانية لستيف آيسمان وشركاتٍ أخرى، مبلغاً يعادل 47 مليون دولار أمريكي، وبفضلِ هذه الثروة أسَّس محفظة استثمارية عملاقة، لا زالت تعملُ بنجاح. حصَّل غريغ هذا المبلغ الهائلَ بفضلِ بُعْد بصيرته وانتهازه لانهيار السوق العقارية الأمريكية. وأما ستيف آيسمان فقد حقّق ثروة أكبر بكثير، تصلُ لمئات ملايين الدولارات. مايكل بوري، وهو صاحبُ المحفظة الاستثمارية، حقّق لمستثمريه ربحاً صافياً (دون احتساب الضرائب وغيرها من المصاريف) يعادل 489.34% من المبلغ الذي راهنَ به، وبالتالي حقّق مكسباً شخصياً يعادل نحو مائة مليون دولار أمريكي، بينما عادَ لمسثتمريه - أو الذين وافقُوا منهم على البقاء معهُ حتى النهاية - بأكثر من 700 مليون دولار.

انعكاس الأزمة على العالم

ولكن هذه النهايات السعيدة التي حظيَ بها بعضُ الحاذقين في عالم المال، لم تكُن سوى الحاصل السّعيد الضئيل من الأزمة، الذي ذهبَ لجيوب الانتهازيّين والمستثمرين الأثرياء. وأما عموم الشعب الأمريكي، بل وشعوب العديد من الدول الأخرى، فقد كانت آثار الكارثة الاقتصادية عليهم مختلفة تماماً.

عندما أعلنت مؤسسات عملاقة، مثل بنك الإخوة ليمان، عن إفلاسها علنياً، فقد دخلت هذه المؤسسات إمّا تحتَ المادة السابعة أو الحادية عشرة من قانون الإفلاس الأمريكي، والتي تنصّ على تصفية جميع أملاك المؤسسة المفلسة وتسييلها لتسديد ما يمكنُ من ديونها. وهذا يعني أن جميعَ الأشخاص الذين اشتروا منازلَ بقروضٍ من البنوك المفلسة، سيخسرونَ المنازلَ التي يسكنونَ تحت سقوفها على الفور، لأن ملكية المنزل لا زالت للبنك، وعلى البنك أن يبيعَ المنزل (وهو ضمانته المالية بالأساس) لتحصيل ما يكفي من المال لتسديد ديونه.

بالنسبة لنا، فقد لا نستطيعُ تذكّر فترة الزمة العالمية - بشكلٍ خاص - على أنها فترة صعبة اقتصادياً، وذلك بسبب التأثير المحدود للأزمة على منطقتنا. فبحسب تقرير صندوق النقد الدولي لشهر فبراير عام 2009، كان العالم العربيّ - في الواقع - من أقلّ مناطق العالم تأثراً بالأزمة الاقتصادية، ويعود ذلك لمصادر دخل المنطقة البديلة المُتعدّدة من خلال "الحوالات والاستثمارات الأجنبية والمساعدات الخارجية"، إلا أنَّ المنطقة العربية تأثّرت على المدى الطويل بالأزمة نظراً لانخفاض أسعار النفط، وهو أحد أهمّ مصادر الدخل للدول العربية الغنيَّة، حيث أنَّ هذا الانخفاض أجبرَ الدول النفطية على سحبِ وبيع كميَّات كبيرة نسبياً من احتياطاتها النفطية وتقليلها لاستثماراتها المستقبلية.

النتيجة

خلال فترة الأزمة المالية العالمية التي امتدَّت لعامَيْن تقريباً، خسرت بنوك الولايات المتحدة وأوروبا، إمَّا بسبب الإفلاس أو الصفقات الفاشلة التي أبرمتها إبان انهيار السوق العقارية، مبلغاً يتجاوز ترليون دولار أمريكي (بعبارة أخرى، مليون مليون) بين سنتي 2007 و2009. خلال نفس الفترة، خسر ملايين المواطنين الأمريكيّين وظائفهم نتيجة ارتفاع نسبة البطالة في الولايات المتحدة إلى 10.1%، وهي أعلى نسبة وصلتها خلال أكثر من ربع قرن. لم يكُن هذا التأثير على الدول الغنية فقط، بل قد عانت الكثير من الدول الفقيرة أصلاً من آثار الأزمة بشكلٍ مخيف. فعلى سبيل المثال، تقلّص مُعدّل نمو اقتصاد دولة كمبوديا الآسيوية من 10% إلى 0% تقريباً بحلول سنة 2009، بينما خسرت دولة كينيا الأفريقية نصفَ سرعة نموّها الاقتصادي.

بدأت نهاية الأزمة الاقتصادية عندما قرَّرت الحكومة الأمريكية، بخطوة ذكيّة جداً لتفادي كارثة اقتصادية، منحَ ديونٍ/كفالاتٍ عملاقة لبنوكها الكبرى لإنقاذ هذه البنوك من انهيارها الوشيك. أقرَّت الحكومة الأمريكية ما يعرفُ بالقانون الطارئ لإرساء الاقتصاد لعام 2008 (Emergency Economic Stabilization Act)، حيث سمحت لخزينة الدولة بإنفاق مبلغٍ مقداره 700 بليون دولار في تمويل البنوك ودعمها بالنَّقد لحمايتها من الانهيار، وبهذا نجا العالم من كارثة وشيكة، إلا أنَّ معظم البنوك والمؤسسات المالية الجشعة - على الجانب السيّء - خرجت من الأزمة دون ضررٍ يذكر، وكانت قادرةً خلال عامَيْن على متابعة عملها بشكلٍ طبيعيّ تماماً ودون أن تدفع أيَّ ثمنٍ لما ارتكتبه من مخالفات وتماد، ومن أفعالها التي كادت تتسبَّبُ بواحدة من أسوأ المشكلات الاقتصادية التي عرفها العصرُ الحديث.

في بداية سنة 2010، قال الرئيسي الأمريكيّ باراك أوباما في أحدِ خطاباته: "لقد استعدنا معظم الأموال التي منحناها للبنوك، واستقرَّت السوق الماليّة الآن"، بينما كتبت صحيفة TIME في أحدِ مقالاتها: "لقد انتهت الأزمة الاقتصادية بسرعةٍ أكثر من التي بدأت بها".

المراجع

  • The Big Short (2015 movie).

  • Financial crisis of 2007–2008, Wikipedia.

  • Michael Burry, Wikipedia.

  • Steve Eisman, Wikipedia.

  • WHERE ARE THEY NOW?: 'The Big Short' Edition, Business Insider.