التجربة السينمائية الدسمة التى تحدث عنها الكثير ، ومازالت قابلة لإعادة الطرح و الشرح و التساؤل ، ويمكن تقسيم الفيلم لعدة عناصر أحب أشاركم إياها وأسمع آرائكم :

1- حالة الصفر : وهى المرحلة التى يقرر فيها يحيى الخروج من عالمه الصغير ( بيت العائلة ) ، وهو صفر وهمى لأنه لا يمكن حقيقة الوقوف على نقطة البداية لإرادتنا إلا حينما نكون أحرارا بحق ، ولكنها كانت الأرضية التى سيقوم عليها العمل الفنى برمته بقيام يحيى بخوض معركة الحياة حينما يقرر أن يتعرف عليها دون أى توقعات مسبقة ( يمكن الحكاية ابتدت لما بقيت وحيد من غير علاقات أسرية أو اجتماعية من غير أوامر و نواهى أو توقعات من غير لوم أو تشجيع أو حتى توجيه .... لما بقيت وحيد فى نفس الوقت بقيت حر ) ، أن تمتلك حرية خوض معركة الحياة بغض النظر عما ستؤول إليه الأمور ، تلك هى الأرضية التى ستنطلق من خلالها حياتك لأنك حينها فقط تملك حرية الاختيار ، وهو ما يذكرنى ببداية بفيلم fight club ، حيث كان على البطل أن ينهى حياته السابقة ليبدأ فى خوض معركة الحياة .

2- حينما خاض يحيى معركة الحياة قرر الذهاب إلى الإسكندرية ، المدينة التى كانت يوما ما تمتلئ بكل الأيدولوجيات ( الكوزموبوليتانية ) ، ومازالت مبانيها تحمل العديد من هذه المظاهر ، و تتنفس هذه الذكريات ؛ فنحن هنا لسنا امام جمادات وإنما أمام مدينة تحمل ذكرياتا لا يمكن لعاقل أن يفصلها عنها وإلا قتلها ، كما تماما لا يمكن للإنسان أن يكون بلا ذكريات ، وهنا حيث تبدأ لعبة الاختيار فى الظهور كعملية تفاعلية من خلال ذكرياتك و من خلال اكتشافاتك الحالية للحياة .

3- علاقة يحيى بباقى أبطال العمل الفنى ، واكتشافه أنهم مختلفون تماما عن حقيقتهم الظاهرية ، قابيل و كارلا و نور و بيسه و حتى الحاج هاشم .... تلك إحدى مظاهر خوض الحياة بعمق وهو دليل على أنك تتعمق فى الحياة بكل حرية ولست منعزلا .

4- هل الحياة تفصح عن أسبابها ودوافعها بسهولة أم أن رسالتها هى التغير المستمر دون شرح الأسباب ؟؟؟؟؟ ، عودة لأول الفيلم حيث الرسالة الموجودة داخل زجاجة ، خشى الصيادون أن تكون سحرا أو ما شابه فألقوها بعيدا ، ولم يذكرهم الفيلم ثانية كإشارة إلى أنهم سيبقون كما هم دون تغير كبير يذكر ، وبمقارنة هذا المشهد باللحظة التى يجد فيها يحيى ذات الرسالة ، ثم مشهد كارلا آخر ارتباط له بحياته القديمة بعد أن التقط الرسالة ، لكنه اكتشف أنها لم تعد كارلا حبيبة أيام الصبى ، وكذلك بيع الجاكيت الخاص به كإشارة أخرى لإنتهاء حياته السابقة ، والاستعداد لحياة جديدة تماما ، والملاحظ أن يحيى عندما قبل الرسالة قد تغيرت حياته جذريا ، و لكنه يقبلها ويحاول أن يفهمها و يترجمها دون جدوى ، كأن الحياة تقول له طالما أنك قبلت الرسالة فإنك قد قبلت التغيير و قد لا يسمح لك بفهم أسباب هذا التغيير ، والتغيير سيقوده إلى التعمق أكثر فى الحياة بكل ما تحمله من آلالام و سعادة كموج البحر ، وهو ما يفتح الباب أمام البطل ليدخل عمق الشخصيات التى يتعامل معها أكثر ويدخل فى عمق ذاته أكثر و أكثر ، ولذلك سنرى عمقا آخر لمعاناة البطل وعمقا آخر لسعادته ، وعمقا آخر لفهمه لنفسه و للحياة ، ومن ثم سيقرر عدة اختيارات قد تبدو للمشاهد غريبة لكنها للبطل مفهومة جدا بالنسبة له ، وتعبر عن احتياجاته الحقيقية وليست الاحتياجات المزيفة التى يرسمها المجتمع ، لذلك كان من الطبيعى فى نكتة نوره أن يكون الجرسون بيسخر من الشخص الذى يتكلم دون تأتأة ، لأن الأشخاص الساعون لخوض أعماق جديدة فى الحياة غرباء قليلون لا يفهمون بسهولة ولا يعبرون عن أنفسهم بسهولة ، لذلك كان دائم التأتأة عند حديثه مع الآخر ، ومع نفسه يتكلم بمنتهى السلاسة .

5- ينتهى الفيلم بمشهد عظيم بموت السمك بفعل ديناميت الحاج هاشم ، ووسطهما يحيى و نوره فى المركب ، و صورة عمودية تتسع رويدا رويدا ، كأنهم الناجون الوحيدون من نمط الحياة الغبى الذى نعيشه الآن ، فكل من رفض خوض تجربة الحياة و التمرد عليها ، إنما رفض أن تتغير حياته بشكل أو بآخر ، أو بمعنى أدق رفض أن يذهب إلى عمق جديد فى هذه الحياة ؛ فيتعرف على نفسه و على الكون من جديد ، ليختار من جديد اختيارات اكثر تناسبا له ، وهنا يكون الحاج هاشم تجسيدا قويا للرأسمالية العقارية البربرية والتى كانت رمزا لقواعد الحياة الحالية التى تجعلنا أمواتا ، حيث نعيش و نموت دون التعمق فى هذه الحياة ، وحتى ذكرياتنا يقتلها الحاج هاشم بكل بساطة ليسلبنا كل شئ ، فنصير سواسية بلا أى عمق ، بحيث نعيش لعبة الحياة وفق قواعد الحاج هاشم التى تفرض علينا أن نكون أمواتا لا نعرف شيئا عن أنفسنا لأننا لم نخوض الحياة بعمق .