تشيع في مجتمعاتنا ثقافة "الطبيب السوبر ستار" الذي يتصدَّر المشاهد في مواقع التواصل، والمجتمع ينظر للطبيب بنظرة رومانسية، كما لو أنّه أبن بجدتها وفارس حلبتها. وكلّما تصدَّر طبيب المشهد، أمسكت راحتيّ قلبًا وجيعًا، فإن لم يكن مُبتدعًا يُجرِّب علاجات بدون أدلّة، كان مُعلنًا، مسوِّقًا لمنتجات تُزري بالمهنة ورسالتها.

نحتاج أن نملك الحصانة الفكرية ممّا يروِّج له "الأطباء السوبر ستار" وهذه الحصانة ليست حكرًا على من كان طبيبًا، تستطيع أن تكسبها بالتفكير المنطقي والتشكيك المستمرُّ للعلاجات المُبتدعة حتّى تثبت أهليتها.

والحصانة تُكسب أيضًا بالقراءة في قصص القرون السابقة والأمم السالفة، في قصص من اشتهروا من قبل، وابتدعوا النتائج والعلاجات، قصص أطبّاء اشتهروا على العالم كلّه، لا في بلداننا العربية فقط. ذلك اليوم قصصتُ لكم قصّة عن جرّاح نقل الرؤوس كانافيرو (1) يُمكن أن تجدونها في نهاية التدوينة.

قصّة اليوم عن أنفيرسا

للخلايا الجذعية مستقبل واعد، ففكرة أنّه توجد خلايا صغيرة تستطيع أن تتحوَّل إلى أي جزء من نسيج نُريده، هي فكرة عظيمة، وهي أقصى ما في النفس من كلِّ منية للأطباء والعلماء.

أمراض القلب بقت عصيَّة على الخلايا الجذعية، فلا توجد خلايا جذعية تُذكر موجودة في القلب، وخلايا القلب لا تُعيد نفسها. تغيَّر هذا الوضع عندما تصدَّر في بداية الألفية الجديدة بييرو أنفيرسا وفريق عمله، الذين قدّموا نتائج على أنَّه يُمكن اصلاح ما تعطَّب من القلب بالخلايا الجذعية، يُمكن أن نُوقف أكثر الأمراض فتكًا على البشرية!

في دراساتهم المتتابعة، أوضح أنفيرسا ورفاقه أنّه يُمكن استخدام الخلايا الجذعية لتجديد النسيج القلبي، وتقليل العبئ على القلب بعد الإصابة بالاحتشاء، إذ بعد الإحتشاء تموت جزء من خلايا القلب، ويصبح المريض عرضة للمضاعفات على المدى الطويل. أنفيرسا ورفاقه كانوا الحلّ السحري المثالي.

دراستهم الأشهر SCIPIO أشارت إلى أنّنا يُمكن أن ناخذ الخلايا الجذعية من القلب في عملية جراحية، ونصلح بها الأنسجة عند الضرر، لقد بدا أمرًا سهلًا، وثوريًا!

بالتأكيد عندما تُبدع علاجًا مثل هذا، تتكنّفك مؤسسات الطبّ الكبرى بالرعاية، جامعة هافارد احتضنت أنفيرسا، كذلك الحال مع مستشفى Brigham and Women's، مُختبر أنفيرسا أصبح مدعومًا بملايين الدولارات، وبالتأكيد شُهرة إعلامية كُبرى في أرجاء الكرة الأرضية!

في 2018 بدأ الانهيار الكبير لأنفيرسا، أكثر من 30 دراسة علمية سُحبت في آخر السنوات، أو في طريقها لذلك. جامعة هافارد ومستشفى برغامز ومنز تكبّدوا أكثر من 10 ملايين دولار خسارة إلى الحكومة الأمريكية لأنّهم كانوا سببًا في تمويل مشاريع تندرج ضمن النصب والإحتيال العلمي.

ماذا حصل لأنفيرسا؟

المشكلة الأكبر لم تكن في أحتيال أنفيرسا على النتائج، كمؤسسة لن تستطيع أن تحمي نفسك من التعاون مع عالم محتال، لكن المشكلة الأساسية كانت في بناء رأس عالمي طبِّي مشهور، يتصدَّر المشهد بشكل يُصبح من الصعب جدًا أن تُغيِّر مساره عندما تبدأ نذائر الشؤم والاحتيال بالحوم حول ما يصنع.

وهذا ما حدث مع هافارد، ففي الوقت الذي كان العلماء في أرجاء الأرض يحاولون إعادة نتائج دراسات أنفيرسا، من دون وصول إلى نتيجة فكانوا يصفون دراسته "بغير قابلة للتكرار" وهو مصطلح علمي راقي لقول: أنت تكذب! في هذا الوقت، كانت جامعة هافارد تمنح أنفيرسا لقب الأستاذية على ما يصنع.

بعد سنوات، تراكمت الأدلة على أنفيرسا، وأصبح من غير الممكن تكرار ما يصنع، وأنهار المختبر ورفاقه، تمنَّع أنفيرسا عن الاعتراف بالخطأ، وألقى لوم تزييف النتائج على أعضاء فريقه.

كم من فريق حاول تكرار النتائج؟ يالها من مضيعة للوقت.

كم من مريض كان يأمل بهذا العلاج؟ أيُّ مضيعة للآمال!

يكفي أن نُشير إلى أنّ دراسة أنفيرسا الأشهر، كانت أكثر سابع دراسة علمية "مُقتبسة" في تاريخ الدراسات العلمية المسحوبة.

لا تقل أنا أصدِّق العلم، بل قل أنا أصدِّق العلم القابل للتكرار!