" ثلاثة مشاعر هيمنت على حياتي كلها.. بسيطة لكنها غامرة بقوة كبيرة : اللهفة إلى الحب، البحث عن المعرفة، والشفقة التي لا تطاق لمعاناة البشر.

كانت هذه المشاعر، مثل العواصف العظيمة التي عصفت بي هنا وهناك، في مسار صعب المراس، على محيط عميق من الكرب، يصل إلى حافة اليأس البعيدة.

سعيت للحب، أولًا، لأنه يأتي بالبهجة الشديدة - والبهجة شيء عظيم لدرجة أنني مستعد أن أضحى بباقي عمري من أجل ساعات قليلة من هذه السعادة! -. سعيت إليه، ثانيًا، لأنه يخفف الوحدة - هذه الوحدة الشنيعة التي تجعل وعي الشخص المضطرب يُطل من حافة العالم إلى الجحيم البارد المبهم الخالي من الحياة. سعيت إليه، أخيرًا، لأنه بالاتحاد مع الحب رأيت و بصورة صوفية، الرؤية المتنبئة للجنة و التي تخيلها القديسون والشعراء.

بشغف مساوٍ سعيتُ نحو المعرفة. تمنيت أن أفهم قلوب البشر، تمنيت أن أعرف لماذا تلمع النجوم، وحاولت أن أدرك القوة الرياضية التي تسيطر فيها الأرقام على تدفق الأشياء. قليل من هذا، وليس الكثير، استطعت تحقيقه . الحب والمعرفة، بحسب ما كانا ممكنين، قاداني إلى أعالي السماء، لكن الشفقة دائمًا ما أعادتني ثانية إلى الأرض، أصداء أصوات البكاء من الألم تتردد في قلبي. الأطفال في المجاعات، الضحايا الذين يعذبون بواسطة الظالمين، العجائز العاجزين الذين يعتبرهم أولادهم عبئًا مكروهًا، والعالم الكامل من الوحدة، والفقر، والألم، كل هذا يسخر مما يجب أن تكون عليه الحياة البشرية. أنا أتوق إلى تخفيف الشر، لكني لا أستطيع، وأعاني أنا أيضًا. هذه كانت حياتي. وأراها تستحق أن تُعاش، وبكل سعادة سأعيشها مرة أخرى لو منحت لي الفرصة ."

برتراند راسل

صديقي إسماعيل :

أتتذكر لما كنّا ندرس معا في نفس القسم ، نعيش في نفس التربص الصيفي الداخلي ، نأكل معا في نفس المطعم أيضا ، أنت ذاك الشاب الحكيم الهادئ أقرب أصدقائي والذي يشاركني نفس الإسم ...

لا أعتقد أنّ إسماعيل" أذكى شاب في العالم ، لكنه كان قارئا شغوفا إجابيا إلى أقصى الدرجات ، كان بطارية من الاجابية المتنقلة يشحن بها زملائه كلما أصاب أحدهم الاحباط ، أحاول تذكر ملامح وجهه وهو غاضب لاكني لا أستطيع ، ببساطة لم أره يوما غاضبا ، ربما كانت مهاراته الدراسية غير قوية إلى هته الدرجة، لكنّه كان رائعا بحق للدرجة التي تسمح له بأن يكون أفضل صديق

إسماعيل توفي إثر فتنة هوجاء طالت المنازل والأرواح في رمضان من العام 2015 ،عمره 23 سنة وصورته الأخيرة معي لاتزال في درج مكتبي.

يقولون أن الأشياء تعرف بأضدادها الضوء بالظلام الغنى بالفقر والحياة في موضوعنا الآن نقيضها الموت وكي أعرف الحياة فقط علي معرفة معنى الموت

هل تتفهم حزن شخص فقد عزيزا عليه؟ ، أنت على الأغلب لا تملك أدنى فكرة عن ذلك حتى تختبر الموضوع ، ربما ترى الأمر بعيدا ولن يطالك أنت أو أحد أفراد أسرتك ؟ عزيزي أنا أيضا كنت مثلك ، كنت أقرأ مقالات الرثاء وكأنها دراما مبالغ فيها أو مجرد مقالات تقنية عقيمة لا تحوي أية مشاعر ، للأسف لقد حدث لي ذلك و الآن أملك مستقبلات تستشعر حزن فقدان الأقرباء ، لا أريد أن أكون زومبي يمر على الجثث وكأنها مجرد جمادات أريد أن أكون إنسانا .

عندما يقتل أحدهم شخصا عليه أن يعلم أنه حقا لا يقتل نفسا واحدة بل يقتل جميع الأنفس المرتبطة بتلك النفس ، عندما يقتل أحدهم شخصا فإنه يصبح بطريقة غير مباشرة شريكا لله في قبض الأرواح ، حين يقتل أحدهم شخصا فإنه يسلبه تماما ولو حق التنازل عن اتهاماته (إن كانت حقا اتهامات) وبدأ حياة جديدة حين يقضي أحدهم على شخص فإنه يقضي على ماض طويل ، مستقبل و حاضر ، أقرباء و بجريمته النكراء يطفئ وميضا طويلا من الذكريات .

لما عشت لحظات الموت أيقنت أنني لا أعيش حياتي لوحدي أنا اعيشها واشاركها مع غيري ، لايمكنني اعتزال العالم لأني لا أريد أن ألقى في المستشفى حين يصل أجلي دون أن يذكرني أو حتى يحزن علي أحد

صديقي قد عاش حياة مثالية لأنه صنع تاريخا مجيدا له ربما لم يكن ليشتهر إلى الدرجة التي يعرفه فيها العالم لكنه حقا ترك أثرا كبيرا في كل من كان محيطا به

عندما يكون لدي أبناء لن أجعلهم يكفرون بأنفسهم* سأخبرهم أن الحياة تبدأ منذ صغرهم لا يوجد مفهوم واضح "لعندما تكبر" طعم النجاح والفشل هو نفسه سواء في السن الصغيرة أو حتى عند الكبر ،الحياة ليست وردية هناك الكثير من خيبات الأمل وعليكم أن تتعلمو التصدي لها منذ الآن ، سأعلمهم دون خجل أن الحب عامل جالب للبهجة وهو دافع قوي للاعمال التي نقوم بها تجاه بعضنا وأن الوقاحة تكمن في كتمان تلك المشاعر ، سأعلمهم أن الفضول و الشغف نحو المعرفة طبيعة بشرية لا يجب وأدها ، دون أن أنسى تعليمهم مبدئ الرحمة والاهتمام بغيرهم من البشر فكون مجموعة من البشر تعاني بعيدا عنا لا يعني أنها غير موجودة في هذا العالم.

وأخيرا كونكم قد اخترتم ماتودون فعله في الحياة ياأبنائي لا يعني أن هذا لن يتغير ، نعم عدم الثبات على أهداف يعتبر عيبا وجوديا ، لكن هذا العيب نفسه هو ما يجعل الإنسان إنسانًا، أن تحمل عبء حُرية اختيار وتغيير الطريق، وعبء السير فيه بدُون أن ترى كيف تبدو نهايته هو الذي يصنع الفارق بين الإنسان والآلة .

*

   كنت أريد المشاركة في مبادرة #تدوين_جماعي لكن الواضح أن الوقت انتهى ولم أجد الوقت لكتابتها حتى الساعة لأني كنت في أسبوع امتحانات