كانت الساعة تقتربُ من الخامسة

الشمسُ تذوبُ على سفحٍ بعيدٍ

والنَّاس من حولي تتهيأُ للنهايةِ اليوميّةِ المعتادة

أمَّا أنا فكنتُ على موعدٍ مع بدايةٍ لم أعرفْ أنها ستكتبُني من جديد.

لطالما رغبتُ في امتهانِ قيادةِ السيارة،لا من أجل ترفِ التجربةِ و لا رفاهيةِ التِّرحالِ، وإنما من أجلِ مسمارٍ أدقُّه في قبرِ خوفي.

أردتُ أن أتحررَ من عبوديةِ المُشاة

من هواجسٍ في الذاكرةِ

ومن كوابيسٍ كلّها مَركبات تجري بلا سائق.

قرفصتُ على الكرسي مثل دعسوقةٍ بريّةٍ

قالت اختي وهي تمازحني:

"لا تقلقي، لن نسوقَ اليومَ"

حيثُ غايةُ ماكنتُ أريدُ أن أعرف هو كيف تُشَغّلُ السيارةُ وكيفَ تنطفِئُ .. فقط إلى هذا الحدِّ!

لكنَّ الطريقَ كان له رأيٌّ آخرٌ.

فجأةً دارت العجلات، وانفلتَ العالم من بينِ أصابعي

وكأنَّ الكونَ ضغطَ على الزنادِ

وتفجَّرتْ اللحظة بخوفٍ عظيمٍ.

وفي ومضةٍ عاجلةٍ غاصَ بها قلقي في الجليدِ:

نسيتُ احساسي

اسمي

وحتَّى الدعاء.

أرى أنِّي تعلَّمت الفرق بين دوّاستيّ (البنزين والبريك)

عرفتُ ذلك جيدًا أو..ربما كنت أعرف.

لكنِّي لا أتذكر ما الذي جرى للسيارةِ فقد وَثَبَتْ وثباتٍ ثائرةٍ مثل ثورٍ هائج!

تجرُّ خلفَها الخوفَ

الدهشةَ

وصراخَ أختي الذي شقَّ قلبي نصفين.

العجلات تدورُ كما لو أن الأرضَ انقلبت على ظهرها، وصرتُ أبحثُ بقدمي عن المعنى بين دوَّاستين:

أيُّهما الحياة؟وأيُّهما الموت؟

لكنَّ الأمر لا يفلحْ و أينما وضعتُ قدمي يبتلعني الطريق أكثر.

كل شيء كان يركضُ:

السِّيارة

نبضي

صراخُها

أملي الأخير

والسماءُ فوقي تتسعُ كعينٍ مذعورةٍ.

بسببِ التوتر الذي سحقَ عقلي وهشَّمَ منابتَ الهدوءِ في صدري كنتُ أضغطُ فَزعًا على (البنزين) بدلًا من (البريك).

هذا الفزعُ الذي كادَ أن يلتهمَ حياتي..

الشارعُ خلفي

تتسابقُ فيه السيارات ذهابًا وإيابًا

و زقاقٌ ضيقٌ أمامي

ينتهي ببيوتٍ مسيّجةٍ

هنا .. لم أعد أسمع شيئًا سوى نبضي كأنّه يقرعُ باب السماء.

حينها رفعتُ يدي عن مُناشدةِ الحياةِ

استسلمتُ..وسمحتَ للعالمِ أن يقررَ مصيري.

دوَّى صوت أختي وهي تصيحُ بي؛ حتَّى تدخَلتْ فورًا قبل أن تنحرفَ السيارةُ نحو الشارع الذي كان يبعدُ عنَّا بضع خطوات.مدَّت أختي يدها المرتجفة إلى الفراملِ.

وسادَ بيننا فراغٌ يشبهُ النجاة.

توقفت السيارة—

دمي يندلقُ مثل بركانٍ مرتاعٍ

مثل الحِلم .. مثل الكابوس

خيطٌ رقيقٌ كادَ يفصلُ بيني وبين الموت

و بين هنا وهناك، لطفٌ سماويٌّ

لا تُبصره أي عين، ولا تدركه أي روح.

عرفتُ أنَّ رحمةَ الله أوسعَ بكثيرٍ من حذاقةِ أيّ إنسان

إنَّها سرٌّ لا يراهُ إلَّا منْ عبرَ على حافةِ الهلاكِ،ومن وصلَ إلى هناك حتمًا سيفهم.

النجاةُ ليستْ حظًّا ولا صدفةً، إنَّها دعوةٌ للتذَكرِ أنَّ القوةَ الحقيقيةَ تكمنُ في الثقةِ بالله لا في السيطرةِ على كل شيء.

١٠ | تشرين الأول | ٢٠٢٥