كان اليوم الثاني والعشرون من عملي ضمن فريق الإحصاء. شعرت حينها بأن خطواتي قد أصبحت أثقل مما كانت عليه في بداية المهمة. ليس بسبب التعب الجسدي فقط، بل بسبب القصص التي كنت أحملها معي من كل منزل أطرقه. لكل باب، حكاية. ولكل حكاية، ألم يتسلل إلى داخلي ببطء.

وقفت أمام بناية قديمة تبدو وكأنها تُصارع الزمن. الجدران رمادية، لا لونا لها سوى آثار الرطوبة وخطوط من الشقوق المتعرجة، كأنها خريطة مأساة قديمة. كان الرقم 141 مكتوبًا بخط باهت بالكاد يُرى، تحيط به رسوم ملونة تُظهر عشق سكان هذا المكان لناديهم الرياضي. بدا لي المشهد وكأنه محاولة بائسة لإضافة بعض الحياة وسط الخراب.

طرقت الباب، وتملكني شعور غريب، كما لو أنني على أعتاب عالمٍ مختلف تمامًا. لم أسمع أي حركة في الداخل، فأعدت الطرق مرة أخرى، هذه المرة أقوى قليلاً. بعدها بدقائق، فُتح الباب ببطء شديد. خرج منه شاب في الثلاثينيات من عمره، عيناه مثقلتان كأنهما تحملان أعباء الدنيا بأسرها. كان يرتدي قميصًا قديمًا متهالكًا،وجينزًا ممزقًا ليس على سبيل الموضة، بل لأنه ببساطة لم يكن يملك بديلًا. شارب كثيف يكسو وجهه، وملامح تعكس مزيجًا من الإرهاق والغضب المكبوت.

بادرته بابتسامة، عرَّفت نفسي كالمعتاد:

"السلام عليكم، أنا باحث الإحصاء الوطني. جئت لجمع بعض المعلومات."

ألقى عليّ نظرة طويلة، لم تكن نظرة غاضبة، بل نظرة رجل فقد إيمانه بكل شيء. ردَّ بهدوء مثقل:

"وعليكم السلام. لكن، أخبرني... ماذا ستُحصي في بلدٍ لا يُحصي حقوقي؟"

كانت نبرة صوته حادة، لكنها لم تخلُ من الأدب. لم أرد إزعاجه، فقلت بلطف:

"أعلم أن الوضع قد يكون صعبًا، لكن الهدف من الإحصاء هو..."

قاطعني بابتسامة مريرة، وقال:

"الهدف؟ الهدف؟ كم مرة سمعنا هذا الكلام؟ تقولون إنكم تُحصون لتحسين الأوضاع، لكن الحقيقة أنكم تُحصون فقط لتملأوا التقارير. أنا لست رقمًا. لا أريد أن أكون رقمًا في بلد لم يُعطني سوى المزيد من الأسباب للهروب."

دعاني للدخول، بخطوة ثقيلة تبعتها خطواتي المترددة. داخل الشقة، أدركت أن كلمة "شقة" قد تكون مجاملة لهذا المكان. كان واضحًا أنه لا يصلح للسكن الآدمي. الأرضية كانت متشققة، والجدران مغبرة كأنها لم تُمسح منذ سنوات. على أحد الجوانب، وُضع حصير قديم فوق كومة من الكرتون ليشكل سريرًا مؤقتًا. بجواره، صفيحة ماء وكيس صغير يحتوي على بعض الملابس.

جلس على حافة الحصير، وأشار لي بالجلوس على مقعد بلاستيكي قديم، كان وحيدًا في الزاوية. نظرت حولي، كان المكان خاليًا من أي مظهر للحياة. صفيحة ماء موضوعة بجانب باب قديم، وموقد غاز صغير بالكاد يعمل.

بدأ حديثه دون أن أسأله:

"هذا هو منزلي"، قالها بابتسامة مريرة وهو يُشير إلى الفناء.

لم أستطع إخفاء دهشتي، لكنني حاولت التمسك بمهنيتي. سألته عن وضعه، عن سبب إقامته هنا. أجاب بنبرة هادئة، لكنها كانت تحمل في طياتها غضبًا مكبوتًا:

"كل البيوت من حولي مُقفلة. هذا الفناء هو ملجئي. ليس لديّ مكان آخر. هل تُريدني أن أسجل في الإحصاء؟ حسنًا، أخبرهم أنني عاطل عن العمل، مطلق، وأعيش هنا وحيدًا. ربما سيضيفونني إلى قائمة الأرقام المنسية."

شعرت بثقل كلماته. هذا الرجل لم يكن مجرد شخص يرفض الإحصاء. كان يرفض أن يكون رقمًا، أن يُختصر وجوده في خانة لا تُقدم ولا تُؤخر. حاولت أن أفتح حوارًا:

"لكن، ألا ترى أن هذه البيانات قد تُساعد في تحسين الأوضاع؟"

ضحك بمرارة وقال:

"تحسين الأوضاع؟ يا أخي، أنا أحاول البقاء على قيد الحياة يومًا بيوم. لا أطلب رفاهية، أطلب حقًا بسيطًا: سقفًا يأويني، عملًا يكفيني. لكنني لم أحصل على شيء. تريدني أن أثق بأن هذا الإحصاء سيُغير حياتي؟ كم مرة سمعنا هذا الكلام؟ نحن الذين نعيش هنا، في الهامش، خارج اهتمام الجميع."

كان صوته هادئًا، لكنه يحمل مرارة واضحة. حاولت أن أفهم حالته أكثر، فسألته عن عمله. رد بضحكة خفيفة لا تخلو من السخرية:

"عمل؟ كنت أعمل في الاتصالات، ثم جاءت فترة الكوفيد. فجأة، فخسرت عملي وكل ما استثمرته. حاولت أن أجد عملاً آخر، لكن كل الأبواب كانت مغلقة. لدي شهادة، ولكن ليس لدي علاقات. أصبحت مجرد عاطل آخر يتجول في الشوارع بلا هدف."

ثم تابع وهو يُشير إلى الرسومات على الجدران:

"ترى هذه الألوان؟ إنها الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر أنني ما زلت إنسانًا. أحب فريقي الرياضي. على الرغم من أنه، هو الآخر بدأ يخيب ظني."

حاولت أن أسأله عن عائلته، فرد بصوت انكسر في منتصفه:

"كنت متزوجًا. لدي طفلان لم أرَ وجهيهما منذ شهور. طليقتي أخذتهما بعد الطلاق، ولا ألومها. ما الفائدة من وجود أب مثلي؟ لا أستطيع توفير شيء لهما."

كان حديثه أشبه بمرآة تعكس أوضاعًا مزرية لا تخصه وحده، بل تخص شريحة كبيرة من المجتمع. في كل زقاق، وفي كل فناء، توجد حكايات مماثلة، أناس يعيشون في ظروف تجعل مفهوم "العيش الكريم" يبدو حلمًا بعيد المنال.

هذه ليست المرة الأولى التي أرى فيها بؤسًا بهذا الشكل خلال عملي. هناك من يعيشون بلا ماء ولا كهرباء، وهناك من يقتسمون لقمة واحدة مع أسر كاملة. في الأحياء القديمة والمناطق المهمشة، يُختصر السكن في غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة بأكملها. بعضهم يُقيمون في بيوتٍ تتسرب إليها المياه عند أول هطول للأمطار، بينما آخرون يعيشون في أكواخ بالكاد تصمد أمام الرياح.

تابع الشاب حديثه وهو ينظر بعيدًا، كأنما يُخاطب نفسه:

"أحيانًا أفكر... لكن لا تظن أنني أعيش على أحلام فارغة ... ربما لو كنت في مكان آخر، لكانت حياتي مختلفة. ربما لو عبرت البحر كما فعل الكثيرون، لكان لديّ أمل. هنا، لا شيء يتغير. كل ما نفعله هو الانتظار، انتظار أن يحدث شيء لا يحدث أبدًا."

لم أجد كلمات كافية للرد. شعرت بعجز كبير أمام واقعه. حاولت أن أُذكره بأن الحياة قد تحمل له مفاجآت، لكنه قاطعني بهدوء:

"يا أخي، أنا لست متشائمًا، أنا واقعي. عرفت الحياة بما يكفي لأدرك أنها لا تُعطي إلا من لديه القوة لانتزاعها. وأنا... لم يعد لدي ما أنتزعه."

خرجت من الشقة 141 بعد أن رفض تسجيل بياناته. كان ذلك أول موقف أواجهه من هذا النوع، لكنه كان كافيًا ليُظهر لي الوجه الآخر للإحصاء. الوجه الذي لا يُحصى بالأرقام، بل بالألم والأمل المفقود.

في الأيام التالية، لم أستطع أن أنسى كلماته. كنت أسير في الأزقة الأخرى، وأتساءل: كم من الأشخاص يعيشون نفس حالته؟ كم من الأبواب تحمل خلفها قصصًا مشابهة؟

في النهاية، أدركت أن الإحصاء، رغم أهميته، ليس كافيًا. نحن لا نحتاج فقط إلى أرقام، بل إلى تغييرات حقيقية تمس حياة هؤلاء الناس. الشقة 141 قصتها، مثل قصص كثيرة، ستظل عالقة في ذهني، تذكرني بأن خلف كل باب قصة، ليست كل القصص سعيدة، لكن كلها تستحق أن تُروى.