في زاوية هادئة من زقاق ضيق، كان يجلس دائمًا رجل تسعيني على كرسي خشبي صغير. كان جلبابه الأسود كلوحة صامتة تحمل في ثناياها معاني كثيرة: الوقار، الحزن، والحنين إلى أيام مضت. وجهه المتغضن كان كتابًا مفتوحًا أمام كل من يتأمل فيه، يروي حكايات الزمن الذي مر عليه، وتلك التجاعيد العميقة على جبينه كانت كالخرائط التي تشير إلى مسارات طويلة من التجارب والذكريات. عيناه، اللتان بدا أنهما لم تعتادا الفرح الكامل، كانتا تشعان بصمت ثقيل، وكأنهما تحملان حكايات لم تجد طريقها إلى الكلمات. لم يكن يتحدث كثيرًا، بل كان يكتفي فقط برد التحية بهدوء على من ألقى السلام، كما لو أنه يود التأكد من أن كل كلمة يحملها له صوت الزمان، وليس مجرد تحية عابرة. كان يبدو وكأنه ينتظر شيئًا ما، ربما لحظة أو شخصًا قد يعيد له شيئًا من تلك القصص القديمة التي احتفظ بها طويلاً.
طوال فترة عملي في الإحصاء، ظل هذا الرجل محط فضولي الصامت. كلما مررت من أمامه، كنت أراه جالسًا على الكرسي نفسه، في المكان نفسه، كأنه جزء من الزقاق نفسه، حارسًا غير مرئي لذاكرته. ومع مرور الأيام، كان تساؤلي يتكرر: ما الذي يحمله هذا الرجل في قلبه؟ ما الذي تخفيه تلك العيون التي لا تبوح بكل شيء؟ ما الحكايات التي تختبئ خلف تلك التجاعيد؟ كنت أقترب منه يومًا بعد يوم، وكأنني أنتظر لحظة قد تفتح لي نافذة أرى من خلالها عالمه الداخلي.
في أحد الأيام الأخيرة من جولاتي الميدانية، وصلت إلى ذلك الزقاق كعادتي. كان الجو مشمسًا، والسماء صافية تمامًا، وكأن الطبيعة نفسها كانت تستعد لأيام قادمة تذكرنا بأيام بسيطة عاشها الناس هنا. كانت الحياة اليومية تُنبئ عن نفسها من داخل البيوت: رائحة الطهي تنبعث في الهواء، ورائحة الخبز الطازج تخترق الزقاق المزدحم بضوء الشمس. كانت صفارة الكوكوط تعلن عن وجبة غداء على وشك الاكتمال، يضاف إليها أصوات الأطفال وهم يركضون ويلعبون في الزقاق، وكأن كل شيء هنا له إيقاعه الخاص. ووسط هذا الزحام الطفيف، كان صوت الحديث بين العائلات يتسلل من النوافذ المفتوحة. أصوات الأمهات وهن يتبادلن القصص أو يشكين مشاغل اليوم، تجلس فوق كلماتهم نسمة من الراحة، لكن وسط الأحاديث الحانية كانت تبرز تلك الهمسات التي تروي ما وقع في الأمس.
إذ كان حديث الجيران عن مشاجرة عنيفة اندلعت في الزقاق ليلة البارحة، تبعتها ضوضاء من الكلمات الغاضبة، ثم صراخ مطاردات الشرطة التي كانت تسعى للقبض على أحد المشتبه بهم. الحكايات تتداخل فيما بينها وكأن الزقاق نفسه قد امتصّ ضجيج تلك الليلة. بينما كان حديثهم يحمل توترًا خفيفًا، إلا أن ذكرياتهم عن تلك اللحظات كانت تحيي الزقاق من جديد. الزقاق الذي يبدو هادئًا في النهار، يحتفظ بين جدرانه بذكريات قديمة، وأحداث تظل محفورة في تفاصيله.
طرقت الباب الأول، لتخرج طفلة صغيرة بعينين فضوليتين، تخبرني أن والدتها خرجت لتوصيل أخيها للمدرسة وستعود قريبًا. طلبت منها أن تنادي عليّ إذا عادت أمها، ثم انتقلت إلى الباب المجاور.
طرقت الباب هذه المرة، لأجد رجلًا في الثلاثينيات يفتح لي الباب بملامح نصف نائمة وصوت غاضب. بدا عليه الانزعاج من طرقي المبكر. أخبرني باقتضاب:
"ما كاين حتى حد هنا، سير دق على اللي الفوق!"
أطعت كلماته بلا تعليق، وقرعت جرس الطابق العلوي. بعد لحظات، أطل عليّ شاب يرتدي نظارات، بوجه بشوش وابتسامة رحبة. قال لي مازحًا:
"واخا تسنا، أنا جاي عندك!"
نزل الشاب بسرعة، استقبلني بسلام وأدب، ودردشنا قليلاً قبل أن نبدأ. سرعان ما اكتشفت أنه شخص مثقف، يتحدث بأسلوب لبق وبسيط. واحترام أنساني الأسلوب الذي استقبلني به من كان قبله الذي عرفت بأنه كان أخوه. وضعني في الصورة بشأن عائلته، أخبرني أنه جاء في زيارة قصيرة لعائلته، وأنه يعمل في بن سلمان. أثار فضولي عندما أشار إلى أنه كان يخطط للمشاركة في الإحصاء لكنه لم يتمكن من إتمام تدريبه عبر المنصة الرقمية. هذا جعله متفهمًا تمامًا لطبيعة عملي، وأجاب عن الأسئلة بسهولة وبطريقة أظهرت وعيه.
أثناء حديثنا، شعرت بروابط خفية تجمعنا. كان هناك شيء مشترك بيننا؛ ربما الصدف كانت أنه في بعض البيوت كنت أجد أصولهم تنتمي الى نفس الرقعة الجغرافية لمسقط رأسي. وذلك راجع لأن أجدادنا حملوا أنفسهم وجاءوا ليعملو في المكتب الشريف للفوسفاط ذلك الوقت. كان حديثه بمثابة نافذة صغيرة ألقت الضوء على تشابهات لم أكن أتوقعها.
بجانب تلك الدردشة الثنائية، كان الرجل التسعيني ينتظر دوره ليتم إحصاءه، كان هناك أمر يثير فضولي مع كل زيارة لبيت جديد: كيف تتغير العلاقة مع مفهوم الوطنية بين الأجيال المختلفة؟ لاحظت أن كبار السن، مثل الرجل التسعيني الذي كان ينتظر دوره في الإحصاء، يتعاملون مع هذه المهمة البسيطة وكأنها واجب مقدس. كانوا يستقبلونني بترحاب كبير، يفتحون أبوابهم بكرم، ويجيبون على الأسئلة بتفانٍ ودقة، وكأنهم يقولون لي: هذا أقل ما يمكننا فعله تجاه هذا الوطن الذي أعطانا كل شيء.
ذلك الإحساس كان يثير شجوني، لأنني لاحظت أن هذه الروح تقل تدريجيًا مع الأجيال الشابة. بينما كان الجيل الأكبر يرى الإحصاء أداة مهمة لخدمة المجتمع والتخطيط لمستقبله، كنت أجد بين الشباب نوعًا من اللامبالاة أو حتى السخرية أحيانًا. البعض كان ينظر إلى المهمة على أنها مجرد إضاعة وقت، وآخرون تعاملوا معي ببرود أو تذمر، وكأن الجهد البسيط للإجابة على الأسئلة عبء ثقيل عليهم.
لكن عند الجيل الأكبر، مثل التسعيني، كان الأمر مختلفًا تمامًا. هو وأمثاله رأوا في الإحصاء فرصة لإثبات حبهم للوطن، ولو بطريقة غير مباشرة. كانوا ينظرون إليّ كباحث، ليس كشخص غريب يطرق بابهم، بل كممثل لهذا الوطن الذي يحمل همومهم ويبحث في تفاصيل حياتهم لتحسينها.
لنعد إلى ما كنا نتحدث عنه .. بعد الانتهاء من مقابلتي مع الشاب، توجهت إلى التسعيني. كان جالسًا كعادته، لكن هذه المرة بدت عليه علامات استعداد غير مألوفة. أحضر لي كرسيًا صغيرًا، ودعاني للجلوس أمامه. كانت عيناه تلمعان بنوع من الفضول، وكأنه ينتظر فرصة للحديث، ليس للإجابة على أسئلتي فقط، بل لمشاركة قصة حياته.
عندما وصلت إليه، لاحظت استعداده الواضح. أحضر لي كرسيًا صغيرًا ليجلس مقابلي، مستعدًا للإجابة عن كل سؤال. لأول مرة شعرت أنني سأستمع لقصة أعمق مما تتطلبه الاستمارة.
بدأ حديثه بهدوء، وكأن الكلمات كانت تنتظره منذ زمن طويل. اكتشفت أنه يعيش وحيدًا منذ 115 يومًا بالضبط. لم يكن الرقم مجرد تقدير عشوائي، بل كان يحصي الأيام بدقة كأنها حبات سبحة، كل يوم يمر يزيده شعورًا بالفقدان. تحدث عن زوجته الراحلة، التي كان يسميها دائمًا "مولات الدار"، وقال:
"كانت كل شي فهاد الدار، ملي مشات، الدار بقات، ولكن الروح اللي كانت فيها مشات معاها."
بينما كنت مستغرقًا في الحديث مع الرجل التسعيني، شعرت بحركة خفيفة بجانبي. التفتُ لأجد الشاب الذي قابلته في الطابق العلوي يخرج بمائدة صغيرة أنيقة، وضعها بعناية أمامنا، وأتبعها بجملة ترحيب دافئة قائلاً:
"هذا فطور بسيط باش نكرموك، مايمكنش نتركوك تمشي بلا ماتذوق شي حاجة من عندنا."
المائدة كانت بسيطة لكنها مُحملة بحفاوة واضحة. عليها صينية شاي فضية لامعة، تتوسطها إبريق شاي مغربي مزخرف يُصدر رائحة نعناع زكية تعانق هواء الزقاق. حول الإبريق، وُضعت كؤوس زجاجية صغيرة بزخارف تقليدية ذهبية. بجانبه طبق يحتوي على خبز "المسمن" الذهبي اللون، مقطّعًا بعناية إلى مربعات صغيرة، ومزينًا بقليل من العسل الذي يعكس أشعة الشمس. إلى جانبه صحن آخر يحتوي على "الغريبة" و"الفقاس"، مما يضفي لمسة من الأصالة المغربية.
لم يكن الطعام وحده ما جذب انتباهي، بل التفاصيل المحيطة بالأجواء. كان هناك هدوء مريح في الزقاق، تُقطعه أصوات بعيدة للأطفال يلعبون وكأنهم يصنعون موسيقى بريئة للحياة اليومية. رائحة الخبز الطازج من أحد البيوت المجاورة اختلطت برائحة الشاي، ونسيم خفيف حمل معه عبق الزهور المزروعة أمام البيوت الصغيرة.
الشاب بدأ يصب الشاي بحركات متقنة، يرفع الإبريق عالياً لينساب السائل الأخضر بلطف داخل الكؤوس، مكوّنًا طبقة رغوة خفيفة تعكس اهتمامه بالتفاصيل. نظر إلى التسعيني بابتسامة دافئة وقال:
"أجي آ السي الحاج، خلينا نفطرو مجموعين مع السيد."
الرجل التسعيني، بابتسامته البسيطة التي تشبه سلامًا خافتًا من الزمن القديم، أمسك بالكأس وأردف قائلاً:
"الله يعمرها دار، ديما المغاربة كرماء مع الضيف."
جلسنا ثلاثتنا، وأكملت الحديث مع التسعيني؛ كانت ذاكرته حادة بشكل مذهل. أجاب عن كل سؤال بثقة وسرعة، من تاريخ زواجهما إلى عدد السنوات التي قضياها معًا. لم تكن الأرقام مجرد معلومات للإحصاء، بل كانت تواريخ حية تحمل معها ذكريات أيام عاشها بحلوها ومرها.
تحدث عن حياتهما معًا، عن بساطة العيش وجمال التفاصيل الصغيرة التي لم يكن يلاحظها إلا الآن بعد فقدانها. كان يتذكر حتى أدق التفاصيل، مثل اليوم الذي التقى فيه بها لأول مرة، وكيف كان يوم زواجهما أكثر الأيام إشراقًا في حياته.
بينما كنت أكتب وأدوّن إجاباته، شعرت أنني لا أقوم بعملي فقط، بل أستمع إلى درس في الحب والصبر. كانت كلماته تحمل نوعًا من السكينة، لكن أيضًا ألمًا عميقًا. لم يكن يشكو، ولم يكن يتذمر، لكنه كان يروي قصته بطريقة تجعلك تفهم حجم الفقد الذي عاشه.
غادرت المكان وقلبـي مثقل بصدى كلماته وعبق ذكرياته. لم يكن مجرد لقاء عابر، بل نافذة أطللت منها على عوالم لم أعهدها من قبل. ذلك الرجل التسعيني لم يمنحني أرقامًا وإحصاءات، بل كشف لي خبايا الزمن، حيث الحب لا يتلاشى، بل يظل معلقًا في أفق الانتظار. الفقد لم يكن فراغًا فحسب، بل امتدادًا خفيًا للحب في غياب من نحب.
التعليقات