دائمًا ما كانت فترة ما بعد صلاة العصر تحمل نكهة خاصة في جولاتي اليومية للإحصاء. في ذلك اليوم، بدأ كل شيء طبيعيًا. طرقت باب أحد المنازل لتفتح لي طفلة صغيرة بوجهها الملائكي. قالت لي بلهجة طفولية:

"ماما قالت لك تسنا شوية."

وقفت أمام الباب أنظر إلى تفاصيل المكان، الحائط الأبيض الذي بدأت تتآكل أطرافه، والدراجة الصغيرة المتروكة قرب المدخل. خرجت الأم سريعًا تحمل في يدها مكنسة صغيرة، وأجابت عن أسئلتي ببشاشة لم أكن أتوقعها. دقائق قليلة كانت كافية لإنهاء عملي معها.

بينما كنت أخطو نحو الباب المجاور، توقفت سيارة صغيرة زرقاء اللون، تبدو قديمة، لكنها تحمل أثر الزمن الذي صقلها. كان بداخلها رجل وامرأة تجاوزا الستين من العمر. لاحظت ابتسامة المرأة المرهقة بينما كانت تحمل كيس خبز وقارورة حليب، وتسير نحو الباب. أما الرجل، فترجل ببطء، وكأن خطواته تحمل ثقل السنين.

اقتربت منه بابتسامة مهنية وقلت:

"السلام عليكم، أنا الباحث الخاص بالإحصاء في هاد المنطقة، وجيت باش نحصي المسكن والسكان اللي فيه."

نظر إليَّ بعينين مليئتين بالحدّة، وقال بنبرة قاطعة:

"حلفت لا جاوبت شي واحد من الناس ديال الإحصاء."

تراجعت خطوة، متجنبًا أي محاولة لإثارة غضبه. كان واضحًا أنني أتعامل مع شخص يحمل ضغينة قديمة. بهدوء، أخرجت دفتري وبدأت في كتابة استدعاء رسمي لتسجيل عدم استجابته. سلمته الورقة بأدب وابتعدت عنه، متوجهًا إلى المنزل المجاور.

لكن قبل أن أبتعد بضع خطوات، سمعت صوته يناديني:

"آه السي، فين غادي؟ رجع لهنا!"

توقفت والتفت نحوه. كان يحمل الاستدعاء في يده ويدخن سيجارته التي أشعلها للتو. عاد صوته أكثر هدوءًا، ولكن مع نبرة استجواب:

"اشنو كتكتب هنا؟ واش هاد الورقة غادي تورطني مع الداخلية؟"

تقدمت نحوه، وحاولت أن أطمئنه قائلًا:

"هذه فقط توثيق لزيارتي، ولا شيء ضدكم."

جلس على كرسي قديم بجانب السيارة، وأخذ نفسًا عميقًا من سيجارته قبل أن يقول:

"آش غادي نقول ليك، راه أنا كرهت شي حاجة سمتها إحصاء وداخلية."

بدأ الحديث يأخذ منحى شخصيًا. روى لي قصته عن عمله السابق في منصب أمني، وكيف غادره بعد سنوات طويلة من خدمته. كان يحمل مرارة الماضي، وخصوصًا عندما تحدث عن تجربة إحصاء سابقة لم يتلقَّ مقابلها.

"عارف، راه داك الوقت شحال ضيعوني؟ كبرنا حنا على وعود خاوية."

خلال حديثه، كان يدخن سيجارته كأنها ترافق كلماته الثقيلة. بدأ يطرح عليّ أسئلة وكأنه يعيد ممارسة وظيفته القديمة:

"شحال كيعطيوك على هاد الخدمة؟ واش عندك شي شهادة؟ آش كيديروا اللي بحالك من بعد؟"

أجبته بإجابات مقتضبة ومهنية، لكنني شعرت بشيء من الفضول خلف ملامحه الجادة. لم يكن يريد فقط أن يعرف عني، بل كان يبحث عن انعكاس لما فقده في حياته.

بعدما انتهى من سيجارته، تغيرت ملامحه قليلًا وظهر عليه شيء من الهدوء. قال لي بابتسامة خفيفة مزجت بين المزاح والجدية:

"يالله، سجل المعلومات وسير، ولكن ما ترجعش عندي!"

توجهت لطرح الأسئلة الرسمية وتدوين البيانات، لكنه لم يتوقف عن التعليق على كل سؤال. عند السؤال عن عدد سنوات الزواج، قال:

"وواش حتى هدشي، أنا راه مبقيتش عاقل حتى العام فاش تزوجت!"

كانت النبرة الساخرة تخفي وراءها ألمًا دفينًا. عندما انتهيت، نظر إليّ وقال بصوت أكثر هدوءًا:

"واش نتا ولد هنا؟ راه عرفت من طريقة كلامك أنك مشي بحال الآخرين."

في تلك اللحظة، أدركت أنني كسبت احترامه ولو لبضع دقائق. غادرت المكان وأنا أحمل معي عبق سيجارته ودروسًا في فهم البشر.

رغم تحفظه الأولي وسوء الظن، شعرت بأن الرجل كان فقط بحاجة إلى مساحة للتعبير عن إحباطه القديم. أنهينا الحديث، وغادرت بابتسامة خفيفة وأنا أفكر في أن كل بيت يحمل قصة، وأن بعض اللقاءات قد تبدأ بنبرة حادة لكنها تنتهي بفهم أعمق للحياة والتجارب.