في الأيام الأولى للإحصاء، كنت ما زلت أسترجع ما تعلمته في الدورة التكوينية. كل شيء بدا جديدًا وغريبًا بالنسبة لي. لكني لم أكن أتوقع أن أعيش تجربة مثل هذه، تجمعني بتسعة أشخاص لا صلة بينهم سوى لقمة العيش.
كانت أول مرة أقترب من باب تلك الدار، طرقته مرارًا لكن دون جدوى. بدا لي مهجورًا. فكرت فورًا في "سي السمسار"، الرجل الذي يعرف أسرار المنطقة أكثر من أهلها. عندما سألته عن المنزل ومن يقطن فيه، أجابني بثقة: "آه، هدوك تسعة ديال الدراري، عمال الشركة، ما كيرجعو حتى بعد السابعة ديال العشية."
عدت لإكمال جولتي على أمل الرجوع عند الساعة السابعة، وفعلاً، في الوقت الموعود، وقفت أمام الباب مرة أخرى. هذه المرة، كان هناك صوت ضجيج واضح، أصوات مرتفعة وضحكات مكتومة. طرقت الباب، ليخرج لي شاب في الثلاثين من عمره، يرتدي زي العمل ولهجته أمازيغية واضحة. قدمت نفسي كباحث في الإحصاء وأخبرته عن الغرض من زيارتي.
ابتسم بأدب وقال:
"احنا عمال هنا، ماشي من هاد المنطقة."
شرحت له بهدوء أن الإحصاء يعتمد على المكان الذي يقيم فيه الأشخاص خلال فترة معينة، وليس على أصولهم. بدا مقتنعًا وأجابني:
"غادي نقول لهم يجتمعوا فواحد الوقت، ورجع دير خدمتك."
تركته مع استدعاء بالمعلومات، وكنت أعرف أن هذه الزيارة ستأخذ طابعًا خاصًا.
لكن قبل مغادرتي، سمعت من داخل البيت أحدهم يصرخ ضاحكًا: "وشكون هاد الباحث؟ واش حتى على الإحصاء خاصنا نوقف حياتنا؟" ضحكات متواصلة كانت تتخللها بعض الكلمات التي لم أفهمها تمامًا. شعرت حينها أنني على وشك مواجهة جلسة استثنائية مليئة بالمفاجآت.
في اليوم المتفق عليه، عدت عندهم. فتح لي أحدهم الباب بابتسامة، وأخبر البقية أن الباحث قد وصل. تجمع التسعة في صالون المنزل الصغير. كانت النظرات مترددة بعض الشيء، وكأنهم أمام لجنة اختبار. بدأت بتوضيح العملية، ثم قلت:
"خاص شي واحد منكم يتطوع يكون رب الأسرة باش نبدا."
ساد الصمت للحظات. كان واضحًا أن الفكرة لم ترُق لهم. أحدهم قال مازحًا:
"رب الأسرة؟ حنا كاملين غير كاريين هنا!"
لكن سرعان ما تشجع أحدهم وقال بابتسامة:
"ديرني أنا، أشنو غادي يوقع كاع!"
طمأنته:
"ما تخافش، ما كاين والو، غير شوية ديال الأسئلة."
ومع بداية الأسئلة، ظهر أول سوء تفاهم. عند سؤالي عن تاريخ ولادته، أجاب بسرعة: "شي عام فالتمانينات، والله ما عاقل." تدخل زميله ليضيف ضاحكًا: "راه ممتورخش ا أستاذ خاصو موسوعة باش يعرف شحال عندو فالعمر!" تحول الموقف إلى موجة من الضحك الجماعي، وكأن الإحصاء أصبح حفلة غير متوقعة.
مع أول سؤال، شعرت أنني في رحلة حول المغرب وأنا جالس في مكان واحد. أثناء تدوين الأسماء، كنت أتعرف على أماكن لم أسمع بها من قبل، دواوير وقرى تنبض بالتاريخ والحياة. أعمارهم كانت متفاوتة، ولكن القاسم المشترك كان التعب الذي بدا في وجوههم جميعًا.
عندما وصلنا لمحور الزواج، تحولت الجلسة إلى مشهد كوميدي. العُزّاب جلسوا جانبًا يراقبون المتزوجين وهم يحاولون تذكر تاريخ زواجهم. أحدهم قال ضاحكًا:
"أنا غير كتبان لي هاد الأسئلة تنتفكر الذكريات ... أش داني نتزوج أنا!"
أما المطلقون، فكانوا يجيبون بحذر وكأن الإجابة ستفتح جراحًا قديمة.
في محور الصحة، كانوا يتبادلون النكات حول أسئلتي عن السمع والبصر:
"راه خدامين فالشركة، السمع والبصر مابقاش عندنا من زمان!"
أما أسئلة التغطية الصحية، فجعلت أحدهم يعلق:
"إلا كانت عندك تغطية صحية بحال اللي عندنا، خاصك تغطية فوقها!"
مع مرور المحاور، وصلت إلى محور التعليم. طرحت السؤال الأول:
"ما هو أعلى مستوى تعليمي بلغته؟"
ابتسم الأول وقال بفخر:
"أنا وصلت الأولى باك، ولكن ماشي أي الأولى باك، ديال العلميين!"
ضحك الجميع، وعلق أحدهم:
"شحال من مرة الأولى باك؟ راه كل عام كنسمعك باغي تفوتها!"
ثم أضاف آخر مازحًا:
"أنا ما كملت والو، ولكن الحياة علماتني بزاف، خاصك تضيفها للإحصاء."
عند سؤال اللغات، كان الأمر أكثر إثارة:
"شنو هي اللغات اللي كتتكلموها؟"
أجاب الأول بجدية:
"عربية، أمازيغية، وشوية ديال الفرونسي، غير ديك ديال 'بونجور، وبون سوار'."
أما الآخر، فقال بضحكة عالية:
"أنا كنتفاهم غي مع الدراري ديال الخدمة، شي كلمات بالأمازيغية، شي بالدارجة، وشي ما معروفش شنو هو!"
وأضفى الثالث على الجلسة جوًا من الفكاهة قائلاً:
"المهم، كل واحد هنا عندو لغته الخاصة، ولكن ملي كنجلسو كنلقاو لغة موحدة: "فين كاين طرف ديال الخبز؟".
رغم طول الاستمارة، كانت الضحكات مستمرة. شعرت للحظة أن هؤلاء الأشخاص لم يكونوا غرباء كما بدا الأمر في البداية. كل واحد منهم حمل معه قصصه الصغيرة، اختلافاته، وحتى همومه، ووجدوا في هذه الجلسة فرصة للبوح والنقاش.
عندما انتهيت من الإحصاء، وقفت لأودعهم. أحدهم قال لي:
"يلا شي نهار بغيتي تجمع الناس وتضحك، عاود رجع لعندنا!"
غادرت المكان بابتسامة وأنا أفكر في كيف أن الإحصاء ليس مجرد جمع للمعطيات، بل قصص تعيشها مع أشخاص لم تكن لتقابلهم في ظروف أخرى؛وأدركت أن كل زيارة في هذا العمل تحمل درسًا صغيرًا في فهم الناس والحياة.
التعليقات