كانت ليان قد أنهت الثانوية قبل أسابيع فقط. قلبها مليء بحماس السنوات الجديدة؛ حياة الجامعة، الحرية الأولى، والمساحات التي تسمح لها بأن تختبر العالم بنفسها بعيدًا عن دفءِ مرافقة الأهل من باب المدرسة وإلى باص العودة.

ورغم هذا الحماس، كانت تحمل في ذهنها وصايا أمها:

"انتبهي… لا تركبي إلا في الخلف… ولا تثقي بسهولة."

في مساء شتوي ثقيل، وبعد يوم جامعي طويل، خرجت ليان منهكة. المطر يقرع الأرض بعنف، والليل يهبط سريعًا فوق الشوارع. ركضت لتحتمي تحت جسر قريب، تخشى على دفاترها المبتلة أكثر مما تخشى على نفسها.

وقفت تنتظر سيارة تُقلّها للبيت إلى أن توقّف أمامها تاكسي.

السائق، رجل في عمر والدها… ربما أكبر قليلًا، بملامح توحي بطيبة الأيام القديمة.

حاولت فتح الباب الخلفي كوصية أمها، لكنه أشار بيده قائلاً:

"معطّل… اركبي قدّامي يا بنتي."

ترددت.

لكن المطر، والإرهاق، وبرودة المساء دفعتها للركوب.

جلست في المقعد الأمامي وهي تقنع نفسها:

"رجل كبير… ما في شي يخوّف."

لكن الطمأنينة لم تدم طويلًا.

امتدت يد السائق نحوها بحجة واهية، حركة صغيرة لكنها تحمل معنى كبيرًا؛ معنى يجعل الدم يتجمد في العروق.

ارتبكت ليان.

شعرت بلسانها ينعقد، وبصوتها ينسحب إلى الداخل.

لكن في لحظة خاطفة، خرجت منها قوة لم تعرف أنها تملكها.

دفعت يده، وصرخت بغضب مهتز لكنه حقيقي:

"وقف… هلأ! انزلني فورًا!"

فتحت الباب رغم المطر، نصف واقفة ونصف مهددة، فالتفت بعض الشباب الواقفين قرب الجسر.

كانوا من أولئك المعروفين بصخب الأزقة… مشاغبين قليلاً، لكن في صدورهم شهامة صافية تشبه هواء الأحياء القديمة.

اقتربوا بسرعة، فهموا الموقف قبل أن تشرح.

وقفوا بينها وبين السائق، مستنكرين فعله، مصدومين من أن رجلًا بهذا العمر يحمل نية بهذا القبح.

أما ليان، فبقيت واقفة على الرصيف، المطر يختلط على وجهها بارتعاشة خفيفة.

لم تكن تبكي… بل كانت تعيد ترتيب صورتها عن العالم.

في تلك اللحظة، اكتشفت أن الطريق لا يُقاس بمظهر الناس، بل بما يخفونه في نياتهم.

وأن الحذر ليس خوفًا، بل بوابة للحفاظ على سلامتها.

وأن الصوت حين يرتفع في اللحظة الصحيحة، قد ينقذ أكثر مما تفعل أي قوة أخرى.

وأدركت أيضًا أن الشهامة ما زالت تعيش في قلوب كثيرة، حتى في أماكن لم تتوقعها.

ذلك المساء لم يأخذ منها شجاعتها…

بل كشف لها مقدارها الحقيقي.