هناك جانبٌ مظلمٌ لكوكب الأرض، كما هو الحال في الجانب المظلم من القمر. يُولد البعض هنا، ويُولد البعض الآخر هناك. وعلى سُلَّم الوجود يعيش، يتنقل بين درجات الرمادي، ويتعذَّب في حجرات المعاناة...

أما بعد، فقصتنا تبدأ بمُدرسة شابة مسيحية، وبالفتى الصغير الذي لم يبقل وجهه، ذات يوم دخلت المعلمة الفصل متأنقة كعادتها، وأجرت اختبارًا للتلاميذ: أن يطرق كل طالب على التختة عدة طرقات خفيفة بأصابعه، بنمط متتابع تتخلله وقفات متباينة. فعل صاحبنا ذلك بشغف، كما فعل الذين سبقوه، والذين جاؤوا من بعده.

وبعد أن انتهت وانتهوا، اختارت بعضهم واصطحبتهم معها. ظلَّ يتابعهم بنظره حتى غابوا عن عينيه، وظل لسنواتٍ يراهم في طابور الصباح وفي الاحتفالات، يقرعون الطبول المثقوبة ويعزفون في غرفة الموسيقى. كان يسمعهم، بل وأحيانًا كان ينزل خصيصًا إلى هذه الغرفة ليرى الآلات الموسيقية: الإيقاعية، والنفخية، والوترية. ثم يهرول عائدًا إلى فصله... وبعد عام أو اثنين، تغيرت "المِس" وجاءت أخرى. لم تأتِ من خارج المدرسة، بل كانت من بين طاقمها. كانت أكبر سنًا، وأكثر وزنًا، ويبدو عليها الطيبة وبعض الهموم. لكنها لم تكن تعزف، ولم تكن تسمح لهم بلمس الآلات، لأنها "عُهدة" كما قالت حينها.

المهم، ذات يوم دخل الفتى حصة الموسيقى خلسة، كان يريد أن يعرف كنه هذا السلم الموسيقي، ويفهم تلك الطلاسم التي يدونها الطلاب في كراساتهم المليئة بأسطر غريبة الشكل يسمونها "نغمات".

هل تُكتب النغمات على الورق، أم تُعزف على الآلة؟

طفل صغير، تملأه الرغبة في المعرفة! احا يا عزيزي القارئ، نحن في مصر...

سألته المعلمة بنبرة عالية متعالية: أنت موسيقى؟

فأجابها بخوف وأدب: لأ يا مِس، أنا مكتبة، بس كنت عايز أحضر عشان أعرف...

قالت له بحسم وهي تنظر للجهة المقابلة:مينفعش، اطلع برّا يلا.

وكأن لا مجال للرد، ولا مكان للاعتراض على الأمر!

خرج صاحبنا وقت حصة النشاط – كما كانوا يطلقون عليها – وحيدًا، ناظرًا إلى الأرض تحت قدميه، يعدُّ بلاطات الطرقة الشاهدة على ما يحدث له واحدةً تلو الأخرى، حتى بلغ السُّلم الحديدي الأسود في نهاية الممر، وجلس يبكي بحرارة.

أما في نشاطه الأساسي، وهو المكتبة، فكان الملل مُجسَّدًا. يجلس لمدة ساعةٍ كاملةٍ على كرسي خشبي غير مريح، وأمامه طاولة كبيرة عالية، صامتٌ، لا يجرؤ على لمس أي كتاب من على الرفوف. لماذا؟ لأنها "عُهدة".

لم ينسَ أبدًا ما فعله أمين المكتبة حين لمح قصة صغيرة مهترئة في يد أحد الطلاب. كان زميله المقرب آنذاك. لم يتركه "المستر" إلا بعد أن تلوى على الأرضية من شدة الألم. بعد أن قام الولد، جلس بجوار صاحبنا، لأنه هادئ.

وبعد برهة، فوجئ الفتى بأن زميله قام وسرق القصة خلسة، ثم جلس تحت الطاولة، ومزقها تمامًا بطريقة انتقامية. وفي حصة مكتبة أخرى، زارت المدرسة بعض الفتيات من كلية التربية للتدريب. جلسن بجوار الأطفال ظنًا منهن أنهم أبرياء، لكن... هيهات.

يؤلمني تذكر هذه الأحداث، فكل شيء يمر أمامي وكأنه شريط فيديو؛ لذا، سأتوقف هنا.

سأعود إليكم لاحقًا لأروي ما جرى لصاحبنا في المكتبة، وحكايته مع حصة الحاسوب، ومغامراته الطفولية القاسية في حصة الألعاب، وانكساراته في فصول الرسم، وطرده من نشاط التمثيل.