أيّها الرائي...
إيّاك أن تظنّ أنّكَ تفهم.
فالفهم لعنةٌ، والعاقلُ وحدهُ هو المخبولُ الذي نَسِيَ كيف يُفسِّر وجعَه.
أنا المسموعُ في منامٍ مقطوع الرأس.
أنا الصارخُ في فلاةٍ لا حدود لها، حيث يَصيحُ الله من عليائه: "أيّكم قتل الصمت؟!"
وأنا... لا أُجيب، لأني كنت السكين.
دعني أحدثك بلسانٍ قديم، لا ترويه الكتب، ولا تكتبه المدارس.
كُنتُ طفلًا يوم رأيتُه... ذاك الذي لا اسم له.
كان يتوسّد التراب، يصرخ وهم ينهالون عليه كالسُّعُر.
رأيته يُذبَح، رأيت الدم يصلي على التراب، وأنا، مجرد ظلٍّ عاجز، أركض نحوه فلا أبلغ...
يُقتل كل ليلة، وأنا أُبعث من جديد كي أشهَد.
كنت أستيقظُ، أغسل وجهي، وأذهب إلى المدرسة.
يوم السبت، كانت سيارة أبي تنتظرني، ثم فجأة، لم تعد.
خرجتُ، فإذا بي أجدهم... وجوهٌ كُتبت عليها سورة العاديات.
ناسٌ... لا بشر، يخرجون من رحم جهنم وبئس المصير.
ظننتني يومًا منهم... أمسكتُ مسدسًا، قبضتُ عليه كأنه قلب امرأة...
خمسُ دقائق، وكان العالم يصلي لي.
لكن قلبي لفظ السلاح كمن يلفظ آخر نفس.
لم أرد أن أكون فيهم، لكنهم فيّ.
ولم أعرف اسمهم... لكنهم يعرفون اسمي.
أتعرف ما هي أمنيتي؟
أن أراهم جميعًا... ممدّدين كما في الحلم، أُمزّقهم قطعةً قطعة، وأهمس في أذنه:
"انتهى، يا أنتَ... النصل عاد لصدرك، والموت عاد لمرقده."
أيها القارئ...
اختر كيف تموت... لأنني لم أختر.
ماتوا من سجدة، من طلقة، من حب... أما أنا فمتُ كل يوم، ولم يُحسب لي قبر.
فهل تموت في صلاة الفجر، أم في سورة الرحمن، أم بين أحضان أمك؟
أنا... متُّ بين صفحاتي.
لا حاجة لك أن تفهمني.
كفّ عن التفسير، وأغلق عينك، واصنع قهوتك.
لستُ أكتب لك.
أنا أحدث المُحقق... ذاك الذي سيفتح ملفي بعد أن يتعفن هذا الجسد.
ذاك الذي سيقرأ هذه السطور ويظنها شِعرًا، وهي شهادة موتي.
هل قلت إني قاتل؟
ربما... خنقته بيديّ، لا حبًّا ولا كُرهًا، فقط كي يسكت.
عيناه كانت تشبه السماء، وكنت أكره الزرقة.
لم أعد أشرب غير الماء، لأن أمي توقفت عن إعداد القهوة.
كل شيء تغيّر...
حتى الطفل في داخلي صار كهلاً، يجلس في ركنٍ ويعدُّ عدد الطعنات التي ستأتي.
في حلمي الأخير... دخلت قاعة، فيها مجلسهم جميعًا.
الظلام سيد المكان.
ضوءٌ وحيد سقط عليه... وها هو يرمي إليّ بندقية، سكين، ومسدس.
ويبتسم...
اقتلنا، واحدًا تلو الآخر.
وفعلت... حتى تعبت يداي.
لكن... لا تخف.
أنا لم أُخلق
للقتل.
أنا خُلقتُ لأروي.
وسأروي حتى تنفد الدماء من أصابعي.
التعليقات