في منزلنا وبعد مغادرة كل فرد، تظل غرفته فارغة إلى الأبد .. صحيح أنها تبقى بنفس الأثاث والتصميم، إلا أن والدتي تعتبرها كأنها غير موجودة أصلاً، وما ان يزرنا زائر أو قريب إلا وفتحت له باب الغرفة قائلةً : " هنا كان فلان "، و بريق عينها يزداد إشراقاً .. أحسست بالأمر حين غبت لأزيد من ستة عشر أسبوعاً، وبعد عودتي وجدت الشق الذي أقطن فيه بابه مقفول، وجلبابي التقليدي في المكان الذي تركته فيه أخر مرة .. القليل من الغبار المتراص فوق الأثاث شكى لي الغياب بعد أن عجز أبي عن البوح، وعن إكتفاء والدتي بقول أنها لم تجد من تأمر بالسكوت وقت القيلولة وبالهدوء من فرط الضحك حين الغذاء .. بينما قالت جدتي بأن زيارتي لها أنا وإخوتي لم تعد بتلك الوتيرة التي ألفتها سنين مضت، وأن إنشغال كل بمهامه جعلت زيارتنا لها أشبه بزيارة الدلوين(أَݣيوْن) للماء -ما أن ينزل أحدهما إلا وانصرف الأخر- .. جدي هو الأخر شكى لي أمره قائلا بأن عطل التلفاز ناتج عن فرط استخدامه، إذ أنه غدا شغله الشاغل بعد تقاعده، ولا ينطفئ إلا وقت صلاته .. كما أضاف أنه في غالب الأوقات يتعمد تركه مشغّلا، فقط لكسر الصمت الحاد الذي يعم على المكان .. وقد أتم حديثه موضحا أنه لا يعتبر الروماتيزم مؤلما ولا يجد الدواء مرّاً أكثر من عودتنا للمنزل ومغادرتنا لها بعد أيام قليلة، تاركين وراؤنا شوقا وحنينا لا يدعه لمرات يخلد إلى النوم بسهولة .. دون أن ننسى إفشاؤه لي عن سر صمته الدائم في الأعياد والمناسبات، موضحا أنه يحاول ألا ينشغل بأي شيء سوى رؤيتنا نتهافت إلى مساعدة بعضنا البعض في تحضير المطبوخات وبترتيبها فوق المائدة، ورؤية الضحكات التي ترسم في وجوه صدأت من كثرت عبوسها أمام الشاشات، كمحاولة منه لاستعاب أكبر قدر ممكن من الذكريات تكفيه لقضاء عام أخر دون رؤيتنا مجتمعين في مكان واحد ..

كفى.