*بورك مجلسك يا عزيزي وها نحن لمرة أخري أمام قضية فلسفية استدعيتني لأجلها، لأجل تفنيد أدق تفاصيلها على قدر ما استطاعت عقولنا الألمعية الصغيرة تلك.
- اجلس اجلس يا صديقي فأنا الآن أمام شعور داخلي ويكأني لم أجد مثل هذا شعور في حياتي السابقة ككل، إني لأجد في نفسي هدوءا شديدا صفحته مستوية اشد الاستواء كصفحة ماء بحيرتنا تلك، لكن تحت هذا الهدوء تكمن الحيرة، حيرة ليست متساوية الاطراف فاحد طرفيها منتصر و انتصاره مأصل الي الأعماق بل و متشعب كذلك لكنها تبقي مسألة محيرة.
* يالحظي، يبدو أن حديثنا سيطول اليوم والغد.
- لا، لا، لن أأرق مسمعيك بحديث طويل مسهب بل سأجعله حوار جله من طرف واحد فأنا كما قلت انت في البداية باد لي أن عقلي الألمعي الصغير هذا يحتاج الي تعزيزات من عقول أكثر خبرة و أتقن صقلا بيد الزمن من خاصتي.
*حسنا أخبرني ما يجول في رأسك ولن تجد مني سوي بضع إيماءات خافتات لأنفذ لك أمنيتك ذات الحوار أحادي الطرف.
- آه لقد فتحت باب حديثنا بالأماني وهي محمولة بيد مؤرقي، الا فلتخبرني أللإنسان كل ما تمني؟.
* حسنا، إني أظنه كذلك ولم لا.
-حتي وان كانت تلك الأمنية خاطئة من منظور ما غير الذي ينظر اليها منه هو؟.
* حسن، هنا يختلف الامر ولكن لابد أن يكون المنظور الآخر هذا موثوق وموثق بأدلة تأصل صحته.
- جيد جدا، إني أسألك سؤالا الآن لابد ان تخرج اجابته من عقيدتك في هذه الدنيا، هل تجد أن المجتمع البشري يمكن ان يكون بلا دين أو منهج يسلم اليه من خالقه و يرجع اليه في كل أمر من أمور حياته خاصة المربكة منها؟
*نعم، وهذا صلب اعتقادي، لكن يبدو أنك تعرج في حديثك على الامور المتشابهات فاني اود ان أقول لك انه لابد الا يخوض غمار تلك البحار الهائجة الا العارفون بها والحاذقين بأمواجها.
-وهؤلاء هم من سلمت أوراق قضيتي اليهم حتي لا يضل عقلي او يتشتت.
* أخبرني الآن عن ما أربكك إذا.
- قبل أن تأتيني كنت قد شاهدت فيلما أمريكيا صدر منذ ما يقارب العشر سنوات من الآن يتحدث عن ما أسموه هم (الموت الرحيم) وهو ببساطة أن يقوم الطبيب المختص بإنهاء حياة مريضه ذا المرض العضال تخفيفا لآلامه و اقتضابا لمعاناته، لكن و من مرآي أنا فاني أجد الفيلم ابدا لم يكن بكامل الحيادية بسرده لهذه القضية وان كان لم يبتعد عنها الا قليلا حيث كان يميل نحو الجانب المؤيد لهذه الفكرة نوعا ما حيث بدا انهم ارادو لبطل فيلمهم ان يظهر فعلا بصورة البطل ذو الرأي السديد لكنك على الرغم من هذا إن أردت تلومهم فلن تجد جزءا محددا يمكنك ان تقطتعه من الفيلم لتحاجهم به على عدم الحيادية فكما قلت هم لم يميلوا عنها الا قليلا، لكن الفكرة التي أربكتني حقا هو عندما رأيت مشاهدا لأناس وصل بهم الحال الى مرحلة اليأس من الشفاء أو تخطوها بكثير وبدأت أنا أيضا استجلب بعضا من الامراض التي درست فوجدت حقا أناسا قد يبدو لك أن الموت أرحم لهم وأكثر راحة لكن هل حقا إذا نظرنا بالنظرة الأشمل والأعم لهذه القضية هل تبدو فعلا رحيمة.
* حقا، إنها لمسألة مربكة تستدعي التعمق فيها اكثر من هذا وبعقول اكثر فطنة من عقلينا نحن الاثنين، لكنك كنت قد ذكرت لي أنك تقف علي أحدي ضفتي المسألة فإلي أي الآراء تميل؟
- أنا اميل معتقدا في ميلي الي الجانب المناهض لهذه الفكرة وقد عززت رأي بعدة نقاط ترضي نفسي.
* فما هذه النقاط يا صديقي، أخبرنيها.
- أولها وهي المسألة الدينية فان قتل النفس محرم كل التحريم كما تعلم وفي تلك المسألة ينبغي الا يتحدث الا العالمون، أما ثانيها فهي نظرة شمولية نوعا ما فانى شبهت مجتمع بني آدم في تلك المسألة باحدي قطعان العواشب التي تجول في البراري فاذا ما هاجمها مفترس من المفترسات ركضت مسرعة تلوذ بالفرار تاركة خلفها المرضي المتعثرين الذين قد يتملكهم اليأس فيقفوا تاركين أنياب القساورة تنغمد في أعناقهم لتسلب أرواحهم وتنهش أجسادهم على مرأي ومسمع من الصحاح المعافين، فاني أري في مسألتنا الاصلية نوعا من الأنانية البشرية المعهودة فلا أراها سوي على هذا الوجه، وثالثا فلقد رفع صناع الفيلم تلك الورقة المعتادة من الغرب اذا ما أرادوا أن يبرروا لمسألة ما غريبة على المجتمع ألا وهي الحرية والرضا، فلقد زعموا أن للمرء الحرية الكاملة والمطلقة في أي شئ يحدث له حتي وان كان ازهاق روح ذاته و زعموا انه مادام المريض مرتضيا ذلك والطبيب فلا حرج فيه ولا ملامة ولكن هنا يأتي السؤال أوليس من طبيعة البشر التأثير والتأثير بالمجتمع المحيط فما الضامن أن يكون هذا القرار حقا نابع من أعماق أعماق وجدان هذا المريض بغير أن تشوبه شائبة من أثر الطبيب ذاته أو من الاعلام اذا ما استشرت هذه القضية واصبحت حديث المنابر الاعلامية المتعددة ولقد نعلم كم اهلكت، ورابعا إني أظن أن في ذلك إعدام ليس فقط للمريض بل للفكر والابداع البشري ككل فكما يقال أن الحاجة أم الاختراع فأني للاختراع والابتكار أن يكون وأنت قد أعدمت الحاجة بقولك "موت رحيم"، أما خامس معززات رأيي أن البشرية إن أقرت ذلك الامر تكون قد أسدت معروفا جديدا للشر على هذه الأرض فلئن أردت أن تقتل أحدهم فلتقل " موت رحيم"، أليس كذلك يا صديقي؟
* إني لأظنك على صواب حقا لكن الأمر محير.
- دعك من الحيرة الآن واحتسي كوب شايك واستمتع بنسائم بحيرتنا الخلابة تلك ولتدعها تذهب عنك آلام نفسك وارقد في سلاااام...
التعليقات