"كنتُ طالبةً جامعيّةً في رَيْعانِ شبابي، أحبّ الحياةَ بكلّ ما فيها، أرتدي كلّ يومٍ فُستاناً أنيقاً مُلوّناً بلون مِزاجي، كنتُ فراشةً زاهيةً تُحلّقُ على الطرقات، أغني على إيقاع النسيم وهطول قطرات المطر، وأرى الكونَ حولي كسمفونية أنيقة جمالُها خلّاب"

"وكنتُ جريئة، أحب روح المغامرة في كل شيء، وأُخاطرُ كلما أتاحت ليَ الفرصة، وكنتُ أراقصُ النجمات كل مساء على لحنِ القمر، وأغازلُ الغيماتِ على مرأى من الشمس، وكنتُ أغوص في كلّ أخضرَ يانِع، وكنتُ أذوب في دوران الوريقاتِ حول جذع الزهرة، وانسياب المياه في زرقة البحر، والإبداع الملهِم في جبين السماء"

"قضيتُ نصف عمري أُطالعُ جمال الدنيا، وقضيتُ نصفه الآخر أفكر في مدى هذا الجمال، إلى أن كان ذاك اليوم؛ عندما خرجنا في رحلة استكشافية لإحدى المدن الاستوائية وصادفَ صباحُه كسوفاً كليّا للشمس، وكنتُ أحد ضحايا ذلك الحادث، وفقدتُ بصري، وجزءا عظيما من نفسي وحياتي"

"وتأثرتُ على إثر هذا الفقد لمدة طويلة، ثم أتوا بي إلى هنا، لأخضعَ لنوعٍ جديد من الرؤية، الرؤية من الداخل"

"برغم حزني البالغ في أول الأمر على فقدان بصري، إلا أنني الآن ممتنة لاتِّقادِ بصيرتي، لقلبيَ الذي اكتسب نظرة ثاقبة، وشعوري الذي ينمو يوما بعد يومٍ بكل شيء"

"وعرفتُ بعدَ رحلة طويلة أن للمرء عينٌ أبصرُ من مقلته، وأن قلبه حين يبدأ الرؤيةَ فإنّ كلّ شيءٍ يختلف، وأنّ المعنويّات التي حدثونا عنها طويلا ونحن غارقون في خِضَمّ المادة؛ من الممكنِ أن تُرَى!"

"وأصبحتُ أحب الظلام وأعشقُ غموضَه وعمقَه، ووضوحه في الدلالة على كل شيء، إنه يجرّد كل زيف، ويُبقِي على أصل الحقيقة، و بدأت محبوباتي القديمة تفقدُ بريقها؛ ليس فقط في عيني وإنما في أعماقي، وأحببتُ رسالة الظلامِ الصامتة التي تخبرُ بأنّ كل هذا الزهو زائف، وأن الحقيقةَ تكمنُ في المضامين"

"وصرتُ أبحثُ عن المضامين فحسب، فلا يغرني ذوي الأطنان والأطيان، ولا تغرني كُتَل الذهب المتراصّة، ولا تغريني وسامةُ وجه، ولا أنفقُ زهورَ عمري تكسّباً للمظاهر!، وآمنتُ أن كل هذه الأشياء تنطفئ في الظلام وتأفُل، وكل ما يأفل فهو ليس بحقيقة!، وأنا أبحثُ عن الحقيقة.."

"ووجدتُ الحقيقة في القلوب، في المكان الأوضح من تقاسيم الوجه، وزخرفة الأقوال، وعذوبة الأسلوب ولين الصوت، وبهرج الزينة، وجدتها عميقا جدا منطويةً في زاوية صغيرة تحملُ شفرات الشخصية، ودليلها الأول، في الطبائعِ الأمّ،في سجيّة النفس وأصلها الطيّب أو الخبيث، في الأمنياتِ الدفينة بالخير أو خلافه، وفي المتطلبات العُليا من حقٍّ أو زوائف"

"وأصبحتْ مُتعتي في كل وقتٍ هي الدوران في فلك النفس، وماهية الأرواح، الشيء الأكبرُ من محيط أجسادنا، الممتدّ من ميلادنا إلى اللانهاية، في الخلودِ الكامنِ في أعماقنا متجاوزًا أجسادنا البالية، وفي طبيعتنا المستقرة رغمَ تغيّر الحَيَوات، وتبدل الظروف، وتجدّد الدنيا"

"وغبتُ بعيدا بعيدا حيث لم أعدْ أرى أي شيء لا بعيني ولا بعقلي، وأصبحتُ أشعر بكل شيء حولي وداخلي، وأتحدُ مع الوجود الكبير في نفسه وفي نفسي، وأشعر أنني قطعة هائمة مقتطفة من الفضاء تسكنُ هذا الجسد لفترة مؤقتة، وستغادرُ من جديد"